مصيبتنا بهم ومصيبتهم بنا

نشر في 25-12-2007
آخر تحديث 25-12-2007 | 00:00
 موفق نيربية

يضعنا الأميركيون في مشكلة دائماً، نريد أن نتمثّل شيئاً من تجاربهم الفذّة في بناء الدولة والديموقراطية والدستورية، ونحجم قليلاً، حتى لا يرى بعضنا من أهل التكفير والتخوين فينا عملاء «العدو» ثم يبتسم ابتسامة خفيّة حين نُسجن أو نُشرّد، أو حتى لا يظنّ الأميركيون أنفسهم أن سياساتهم في منطقتنا بخير، وهي ليست كذلك، لا في دعمهم الثابت لإسرائيل، ولا أخطائهم الكبرى في العراق.

ربما كان السبب الحقيقي لظاهرة «بوبي فيشر» الغريبة في عالم الشطرنج، أنه لم يجد من يلاعبه في مستواه، ولمن لا يتذكر جيداً، فقد كان المذكور أصغر أميركي أحرز بطولة الولايات المتحدة للصغار في عامه الثالث عشر، وفي الخامسة عشرة أصبح أصغر «أستاذ كبير» في التاريخ. نال بطولة العالم في أجواء مثيرة وهزم السوفييتي سباسكي في ريكيافيك عام 1973. ورفض اللعب إلاّ ضمن شروطه الغريبة مع كاربوف بعد عامين. ثمّ اختفى عن الأنظار لعشرين عاماً بعد ذلك.

ومع أننا -نحن العرب– كما قال أكثر من شخص نميل إلى عالم «الداما» وطاولة الزهر وشدّ الحبل، فإن في السياسة الخارجية والدولية شيئاً من عالم الشطرنج. وكان ذلك جليّاً أيام الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي.

لما يقارب نصف القرن، خيّم التوتّر والتنافس على العالم في حقول مختلفة عسكرية وإيديولوجية واستخباراتية واقتصادية وتقنية، ومرّ الكوكب في أوقات ذعر في أثناء حصار برلين 1948-1949 والحرب الكورية 1950-1953 وحرب فيتنام 1959-1975 وأزمة الصواريخ الكوبية 1962 والحرب السوفييتية الأفغانية 1979-1989، واستطاع العبور، لأنّ هنالك قواعد ما -غير مكتوبة- للعب آنذاك. كانت هنالك تفاهمات وتنافسات على وراثة عالم ما قبل الحرب وتوزيعه، يخيّم عليها أجواء العداء المشترك للسائد القديم، وكان هنالك شطرنج، انتصر فيه الأميركيون أخيراً، لندخل عالماً أحادي الاستقطاب، غير قادر على الاستقرار بأحاديّته، وغير قادر على تجاوزها.

ويبدو أن الملعب كبير على لاعب واحد، فيخطئ ويتسرّع أحياناً، ويندفع من دون جدار، فيتعثّر، وقد يخسر لعبته من دون خصم.

نحن كنا ميداناً رئيساً غير محسوم في تلك الأيام، وبالغ الحساسية للأميركيين لأسباب مباشرة تتعلق بالنفط وإسرائيل، فابتدعوا لنا حلاً مناسباً للطرفين المتنافسين، يعتمد تثبيت استقرار المنطقة عن طريق الاستبداد، وإبقاء الملعب مفتوحاً للمباريات المحدودة في الحجم والمكان والزمان، من دون حساب للشعوب وآلامها وطموحاتها. كنا لا نفهم دائماً ماذا يجري، فنبادر إلى عالم السحر والشعوذة والتآمر والبطولة والمخابرات لنفكّ طلاسم الحالة، حتى الذين يعرفون الشطرنج منا، كانوا يحارون في الفهم -وهم يتفرجون وحسب- على اللعبة بعد الافتتاحيات المدرسية في البداية.

حالياً تلعب الإدارة الأميركية وحدها في العراق وفلسطين ولبنان، وفينا جميعاً، فتتسرّع وتلجأ إلى «طريقة نابليون» السريعة الحسم، وتحتار في أمرها حين لا ينتهي الأمر بخمس «حركات» وحسب.

لكن –للأسف الشديد- هذه ليست مشكلتها وحدها، بل مشكلتنا أيضاً.

يمكننا أن نمسك بخناق الأميركان جميعاً، لا نستثني أحداً، حتى العرب الذين يعيشون في تلك البلاد وينتمون إليها ويحملون جنسيّتها، ويطالبوننا بإلحاح أن نحاربها بلا هوادة. يحبون أمتهم الأصلية ومسقط رأسهم كثيراً -ونقدّر ذلك بالطبع- ولكنهم يحبّونها كما هي، ونحبها نحن أيضاً كما هي، بدافع طول العشرة كما يُقال، ولكننا نحبها أكثر كما ينبغي أن تكون. يحبونها بطغاتها «حملة الهوية والعزة والكرامة» وتأخرها «حامل الإرث والتقاليد والجهل والثبات»، ونحن لانحبّها كذلك.

يضعنا الأميركيون في مشكلة دائماً، نريد أن نتمثّل شيئاً من تجاربهم الفذّة في بناء الدولة والديموقراطية والدستورية، ونحجم قليلاً، حتى لا يرى بعضنا من أهل التكفير والتخوين فينا عملاء «العدو» ثم يبتسم ابتسامة خفيّة حين نُسجن أو نُشرّد، أو حتى لا يظنّ الأميركيون أنفسهم أن سياساتهم في منطقتنا بخير، وهي ليست كذلك، لا في دعمهم الثابت لإسرائيل، ولا أخطائهم الكبرى في العراق، ولا عطشهم إلى نفطنا، ولا دورهم في تعويقنا نصف قرن عن اللحاق بالحداثة والعصر، في مضامينهما.

وحتى حين يدعمون حقوق إنساننا، يفتحون أبواب السجون لنا أكثر، من قبل حكام جاهزين وقائمين على تخوين خصومهم وتبييض صفحتهم بالوطنية من الطراز الهشّ، وحين أخذوا يقولون بنشر الديموقراطية أخيراً، وضعونا معهم في حرج، حين صرنا -نحن دعاتها- نضرب معهم على صنج واحد.

على كل حال، لا بأس حين يقولون قولاً حسناً، أو يفعلون فعلاً حسناً -وبتحفظ شديد من حيث الأساس ومن حيث مصداقية صاحب القول أو الفعل لدينا نحن العرب- كما ظهر مثلاً في بيان البيت الأبيض ترحيباً بانعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق أخيراً ونتائجه؛ ولكننا لن نتخلى عن ملاحقتهم، ليس بأخطائهم التي يقترفونها يومياً فحسب، بل بتأنيبهم على ما فعلوا بنا في الماضي الذي نطلب تعويضاً عنه في دعم قضايانا، وتصحيحاً لموقعهم المنحاز في المنطقة.

إن رفعوا الستار البراغماتي الجاف عن أنظمتنا الخاطئة؛ ذلك الذي أصبح سميكاً وصعب الكسر لطول العهد وآفات الزمن، وتركوا الأمر لأهله؛ فهذا يكفي.

«بوبي فيشر» انتهى معتقلاً في مطار ياباني، ولاجئاً في دولة أوروبية، بعد أن اخترع تطويراً للعبة الشطرنج، يبقي فيها اللاعب بيادقه مصفوفة كما هي في المقدمة، ويرتّب وراءها ملوكه ووزراءه وقلاعه وأحصنته كما يريد. ويقول فيشر إن هذه اللعبة تزداد تعقيدا عندئذٍ، وتليق بلاعب أشدّ ذكاءً... فهل الإدارة الأميركية كذلك الآن؟!

* كاتب سوري

back to top