مقاهي بغداد... برلمان من نوع آخر
تبدو المقاهي البغدادية كأنها برلمان شعبي، إذ يسعى المواطنون إلى جعلها مكاناً لتقييم الحالة السياسية والثقافية والاجتماعية، ولاسيما من خلال النقاشات المختلفة، على الرغم من تغير سياق هذه النقاشات مع مرور الزمن.
المقاهي القديمة، عطر المسك لمدينة بغداد، وأحد معالم هويتها التراثية العريقة، تتمتع بطقوس خاصة لمريديها، بمختلف شرائحهم، وهم يخصصون جزءاً من أوقاتهم اليومية لها، يتبادلون فيها شؤونهم الخاصة وأخبار البلاد والعالم، وتقام نقاشات وورش عمل لتطوير مهارات روادها في الفن والرياضة والعلم والآداب، فضلا عن الترويح وقضاء اوقات ممتعة.ومن اشهر تلك المقاهي نجد مقهى حسن عجمي، ومقهى الشهبندر والجماهير والزهاوي، التي تتوزع بين الرصافة والكرخ. كما شكلت مجاميع من الادباء والكتاب تجمعات ثقافية ومذاهب فنية انطلاقاً من المقاهي التي ارتادوها. ويتميز المقهى بأرائك خشبية مصنوعة بطريقة تراثية رصفت ضمن نسق معين لتشكل حلقات مربعة احيانا، تتوسطها منضدة صغيرة لوضع اكواب الشاي او المثلجات في حين وضعت على الارائك حصر من القصب صيفا وبسط ملونة شتاء.ويقول الباحث الدكتور عماد عبد السلام في كتابه «الحياة العامة في العراق»، ان اول مقهى عام انشئ في بغداد هو مقهى «خان جغان» في منطقة الخان، التي انشأها والي بغداد جغان زاده سنان باشا عام 1590 للميلاد، وعام 1883، بلغ عدد المقاهي في بغداد 184، ثم ارتفع الى 599 عام 1934. وقد سجل الدليل الرسمي العراقي لعام 1936 جدولا يُبين ان في شارع الرشيد وحده يوجد 62 مقهى بأسماء اصحابها وعناوينها حتى ان وندل ويلكي، مرشح الرئاسة الاميركية انذاك عندما زار بغداد عام 1942، قال كلمته الشهيرة «وجدت في بغداد بين كل مقهى ومقهى مقهى آخر».كانت هذه المقاهي اشبه بمنتديات اجتماعية وثقافية وسياسية يرتادها رجال السياسة والقانون والشعر والادب عموما والتجار والموظفون والطلبة الذين لهم مقاهيهم الخاصة مثل مقهى البلدية ومقهى ابراهيم عرب. وقد اختفت معظم هذه المقاهي العامة بفعل التغيير العمراني والاجتماعي، وحرص السلطات السابقة على اضاعة وتذويب اماكن الاجتماعات العامة ومنها المقاهي، فاختفى مقهى خليل اغا ومقهى البرلمان ومقهى البلدية والمقهى البرازيلي الذي كان يقصده مجموعة من الفنانين التشكيليين والادباء امثال بدر شاكر السياب وجواد سليم وفؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وحسين مردان.وكان مقهى البرلمان، الذي سمي مقهى الرشيد فيما بعد، مقرا شبه دائم لكبار الصحافيين والشعراء امثال الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وعبدالقادر البراك وعبدالمجيد الونداوي ويحيى قاسم و صاحب جريدة «الحارس» صبيح الغافقي وصاحب مجلة «قرندل» الاسبوعية صادق الازدي وصاحب مجلة «الوادي» خالد الدرة وغيرهم. ثم اصبح في الستينيات مقرا لتجمع شباب الادب. ولعل أحد أهم ما تقدمه بعض المقاهي هو البعد المعرفي الذي يشغل حياة المثقف العراقي، إذ يصبح المقهى مقصدا ينهل المواطن من جلساته وحواراته، التي كثيرا ما شهدت قناعات ايديولوجية مختلفة، بين الافكار اليسارية والعلمانية والدينية.وتشكل جلسات بعض المقاهي اجتماعات سياسية لبعض الاحزاب الصغيرة، التي سرعان ما تتحول الى تجمع كبير.والسبب في هذا التوجه هو ان مقدار الحرية التي يشعر بها المواطن اليوم اوسع بكثير مما كانت عليه ايام النظام البائد. وللشبان دور ايضا، ولهم مقاهيهم يجلسون عليها لقضاء الوقت ولعب الطاولة او الدومينو، وهناك من ادخل لعب الورق ايضا، على الرغم من أن هذا الامر يساهم في القضاء على العادات القديمة التي كانت تزخر بها مقاهي ايام زمان. وتطلق على المقاهي اسماء اصحابها او اسماء المناطق التي توجد فيها، فضلا عن مقاهٍ عرفت بأسماء شخصيات او شعراء وادباء، بينها مقهى الزهاوي (نسبة إلى الشاعر جميل صدقي الزهاوي) او الرصافي (نسبة إلى الشاعر معروف الرصافي) قرب منطقة الميدان.