رمضان في السنة النبوية 3

نشر في 08-10-2007
آخر تحديث 08-10-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

الوعي بالزمان بداية ونهاية ليس مشروطاً بتعلم القراءة والكتابة. هو إحساس داخلي عند الأمي الذي يعتمد على إحساسه الطبيعي وعلى ذاكرته وحواسه، كما يركز الحديث النبوي على أول الليل ساعة الإفطار وعلى آخره ساعة بدء الصيام.

يظهر في السنة النبوية بوضوح موضوع التوقيت، معرفة بداية شهر رمضان وآخره، اتصالا مباشرا بالطبيعة، ورؤية مباشرة للهلال. «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له». ليس الأمر إذاً مجرد حساب فلكي يتم قبل الشهر أو بعده بعام أو بعامين أو بعشرات السنين. إنما يتعلق الأمر بالفرح بمظاهر الطبيعة ودوراتها، نظراً إلى ما في القرآن من توجه إلى التأمل في الكون والاعتبار بالشمس والقمر والكواكب والنجوم، فإن لم تتم رؤية الهلال هنا يأتي التقدير، ولكن بعد الاتصال الحي المباشر بالطبيعة. ثم يأتي بعد ذلك تحديد الشهر وعدد أيامه. وتعده السنة، بالليالي وليس بالأيام، تسعا وعشرين ليلة. فإن غم القمر ولم يتضح الهلال فإكمال العدة إلى ثلاثين يوما «الشهر تسع وعشرون ليلة. فلا تصوموا حتى تروه فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين». فإذا كان الشهر العربي تسعة وعشرين يوما فإن شهرين لا ينقصان ويكملان ثلاثين يوما: شهر رمضان وشهر ذي الحجة «شهران لا ينقصان، شهرا عيد رمضان

وذو الحجة». فمن صام قبل ذلك وكان ينوي الصيام يوماً أو يومين قبل رمضان فله ما أراد. «لا يتقدمنّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل، كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم». فالبداية بشهر الصوم في أول يوم فيه فرح، فرح البداية والجدة والانتقال من حال إلى حال. والفرح بالنهاية في خاتمة الثلاثين، فرح النهاية والانتقال أيضا من حال الصيام إلى حال الفطر. ومن هنا أتت أهمية التركيز على البداية والنهاية، أول يوم وآخر يوم، يوم الغرس ويوم الحصاد.

وكان الرسول يعد أيام الشهر باليد تأكيداً على الجانب الحسي في الوقت وعدد الأيام «الشهر هكذا وهكذا» من دون حاجة إلى حساب فلكي «إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا». الوعي بالزمان بداية ونهاية ليس مشروطا بتعلم القراءة والكتابة. هو إحساس داخلي عند الأمي الذي يعتمد على إحساسه الطبيعي وعلى ذاكرته وحواسه. كما يركز الحديث النبوي على أول الليل ساعة الإفطار وعلى آخره ساعة بدء الصيام «إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم» وفي رواية أخرى «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم». فالتعجيل بالإفطار سنة، والفرح لا يؤجل.

ولا يجوز الصيام يوم الجمعة فهو يوم عيد، يوم لقاء الناس في صلاة الجمعة والتحادث إليهم والتحاب معهم والزيارات والتحيات المتبادلة «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده». الصيام اعتكاف، والصلاة مشاركة. والجمعة عيد المسلمين.

والصوم واجب وفرض، وهو صوم رمضان. وهو أيضا سنة ونفل مثل صوم عاشوراء وصوم السفر، وهكذا الحال في باقي الواجبات، مثل الصلاة، فرض وسنة. فلما سئل الرسول على ما فرض على المسلم من صلاة وصيام أجاب «الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا»... «شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا». والصوم الاختياري التطوعي يدل على أن الصيام ليس فقط واجبا أو فرضا بل هو أيضا التزام ذاتي، واختيار حر، ونداء باطني للذات. فالتنزيل يقابله التأويل. ولا تنزيل بلا تأويل، ولا تأويل بلا تنزيل.

ومثال ذلك صوم عاشوراء. فقد كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر الرسول بصيامه حتى نزل فرض صيام رمضان. وترك الرسول صوم عاشوراء على خيار «من شاء فليصمه، ومن شاء أفطر». وفي رواية أخرى «يوم عاشوراء يوم من ايام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه». ولا يقتصر الأمر في الصوم الاختياري على حرية الاختيار، بل أيضاً يفيد التواصل مع الديانات السابقة، اليهودية مثلاً. فقد كان اليهود في شبه الجزيرة العربية يصومون يوم عاشوراء. ولما قدم النبي إلى المدينة ورأى اليهود يصومونه سأل عن السبب فقيل له إنه يوم صالح عندهم، يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم فرعون. فصامه موسى شكرا لله. فقال الرسول «فأنا أحق بموسى منكم». كانت اليهود تعتبر يوم عاشوراء عيداً، وأنتم أحق به منهم «فصوموه أنتم». فالإسلام يرث شعائر اليهودية، والرسول خاتم الأنبياء. وقد صامه الرسول، وخيّر المسلمين في صيامه «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم. فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر».

وصيام المسافر أيضا على الخيار، إن شاء أفطر رخصة وإن شاء صام عزيمة. فلما سأل أحد الصحابة وكان كثير الصيام هل يصوم في السفر؟ قال الرسول «إن شئت فصم، وإن شئت فافطر». ولما كان الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه فلم يحبذ الرسول في رواية أخرى الصوم في السفر قائلا «ليس من البر الصيام في السفر». ومع ذلك يظل على الخيار اختباراً لقدرة الإنسان من دون أن يكلف نفسه ما لا يُطاق، لاسيما أن بعضهم يأخذ السفر ذريعة في الإفطار، وبعضهم الآخر يصوم في السفر فلم يعد في السفر بالطائرات اليوم مشقة السفر في الصحراء.

والطعام والشراب نسياناً في رمضان ليس من المفطرات. فالأعمال بالنيات والطعام والشراب نسياناً من غير عمد لا يُذهب الصيام. «إذا نسي أحدكم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه». أما الجماع نسياناً فهو افتراض غير واقعي نظراً إلى ما يتطلبه الجماع من وقت يتذكر فيه الإنسان أنه صائم. والجنابة عن جماع أو احتلام في أثناء الليل وقبل طلوع الفجر لا تبطل الصيام بعد طلوع الفجر. فقد أخبرت عائشة وأم سلمة أن الرسول كان يدركه الفجر وهو جُنب من أهله ثم يغتسل ويصوم كما يروي البخاري.

أما قبلة الصائم فتروي عائشة أن الرسول كان يقبّل بعض أزواجه وهو صائم، وقد رُوي الشيء نفسه عن أم سلمة أنها كانت تغتسل مع الرسول من إناء واحد وكان يقبلها، وهو صائم كما يروي البخاري أيضا. واستعمال السواك لا يفطر. إذ يذكر عن النبي أنه استاك وهو صائم. فالسواك كما تقول عائشة مطهرة للفم، مرضاة للرب. والمضمضة لا تفطر حتى في الوضوء بالرغم من طعم الماء في الريق الجاف. فالمهم النية، سواء الوضوء للصلاة أو المضمضة لإدخال بعض الماء في الريق؟ والحقيقة أن المفطرات هي ما يدخل في الجوف أو ما يخرج منه عمداً وقصداً. فالنية شرط العبادة، ولا توجد أقوال في ذلك من الرسول، بل كلها أفعال أو إقرارات. والسنة القولية أقوى في الحكم من الفعل والإقرار، فالحجامة أي فصد الدم والقيء لا يفطران، فالمفطر ما يدخل في الفم لا ما يخرج منه، وهو أصح الأقوال. أما بالنسبة إلى النساء فإن الحائض تترك الصوم والصلاة، ولكنها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، ويتساءل أصحاب الرأي عن علة التفريق بين الصوم والصلاة في القضاء، ويرد أهل الأثر بأن كثيراً من الآثار لا تأتي بالضرورة وفقا للرأي، ومع ذلك، فإن الصوم أندر من الصلاة، لذلك يجب فيه القضاء، والصلاة أكثر شيوعاً من الصيام لذلك لا قضاء فيها، كما أن كثرة النوافل في الصلاة قد تكون قضاء غير مباشر عن فوات صلاة الحائض، وذلك كله اجتهادات في التعليل، وقد يكون في قضاء صلاة أسبوع الحيض مشقة على الحائض في ما لا ذنب لها فيه.

*كاتب ومفكر مصري

back to top