بشاعة خارج ميدان المعركة

نشر في 30-04-2008 | 00:00
آخر تحديث 30-04-2008 | 00:00
 بدر عبدالملك تميزت قارة أميركا اللاتينية في السبعينيات من القرن المنصرم، بكثرة الانقلابات العسكرية التي تقوم بها الطغمة الدكتاتورية، والتي لا تحتمل أوضاعا ديموقراطية جديدة في البلاد، وتحدث متغيرات مهمة تهم المجتمع وتحارب أشكال الفساد في النظام السابق بما فيها تورط جنرالات الجيش مع الأوليغارشيات الاحتكارية، ولا سيما الأجنبية منها والمحلية. فإذا ما تمتع الناس بنزهة قصيرة وتنفسوا الصعداء بعد أعوام طويلة من حكم العسكر، فسرعان ما يعود ليل الدكتاتورية العسكرية إلى السلطة، والذين وصفتهم الروائية التشيلية إزابيل الليندي بتفاصيل فنية في روايتها «بيت الأشباح» حيث يصبح الوطن من جراء الدموية المغرقة حالة لا يمكن أن تطاق إنسانيا.

في مثل هذه الحقبة عرفت أيضا أوروبا الجنوبية كاليونان وتركيا وإسبانيا والبرتغال نماذج مماثلة من سيطرة «العقداء السود»، وهذه التسمية كانت عامة لكل تلك النماذج القاسية من حكم الدكتاتورية العسكرية، ففي الدول الأربع التي ذكرناها في أوروبا الجنوبية، كان يحكم على كل من يتم مسكه متلبسا بحيازة منشور سري ممنوع لتنظيم سياسي معارض، بعشرين سنة. مثل تلك الأحكام القاسية كانت تستهدف نشر مناخ الرعب بين السكان والشعب، فما بالك باعتقال النقابيين النشطاء وسط الطبقة العاملة، حيث يغيبون مدة تفوق العقدين من الزمن.

فهل نتخيل كيف كانت الانقلابات العسكرية في القارة الجنوبية؟ ربما لم تكن كل الأنباء الواردة في تلك الحقبة كافية، فضاعت البشاعة والفظاعة بين أسرار الملفات، وكل ما تم تسريبه عالميا كان مصادفة، إذ اكتشفت الأحزاب والمعارضة أنها لم تعرف إلا القليل بسبب انغلاق بيوت الأشباح عن الناس، وضعف المعارضة السرية على اختراق جدران مغلقة بالوحشية.

ومع فجر الديموقراطيات في قارة أميركا اللاتينية، التي انبثقت مع نهاية القرن المنصرم وتوالت خلال قرن حتى عام 2008، بدأت الناس تتحدث عن أحزانها وعن مصير العشرات من الناس المفقودين، وأخذت العائلات تصطف جماعات كبيرة أمام لجان، شكلت من أجل الاستماع إلى قصص صالحة لعالم السينما، فالسيناريو جاهز للتصوير، ولكم كانت القصص مرعبة في شيلي وغواتيمالا وباراغواي وأورغواي والأرجنتين، وكل القارة من دون استثناء، غير أن التسابق بين تلك الدول «التي تفتخر بحجم بشاعتها» كان خارج نطاق معركة يمارسها رجال يرتدون البدلات العسكرية، وقد تعلموا في المدارس العسكرية أصول احترام الحرب خارج ميدان المعركة، وكيف يحترمون حقوق الأسرى واتفاقيات جنيف، وكل المواثيق المعبرة عن احترام حقوق الإنسان.

مثل أولئك الجنرالات، يستحقون عقابا صارما لن يفي بمعاناة وآلام الأمهات والزوجات لسنوات طويلة عاشوها بين جدران الأمل والدموع، فلعل غياب ابنهم أو ابنتهم ليس إلا مسألة مؤقتة، إذ تعتبر العائلة ابنها مفقودا طالما أنه ليس حيا ولا ميتا إن لم تستلم جثته، ومن هنا كان الأمل المخنوق في نفق الحياة، يبقى يتحرك كشمعة متعبة تطفئها هبة نسمة عابرة.

جميعنا سمع عن ميدان مايو في مدينة بوينس آيرس العاصمة الأرجنتينية، حيث هناك تتظاهر وتتجمهر العائلات والأمهات تطالب السلطات بالتنقيب والبحث عن أبنائها، فكان على لجنة «المصالحة» القائمة على التوافق بين المؤسسة العسكرية والحياة النيابية الجديدة، النظر في الأمور بنوع من الرأفة والتسامح ونسيان الماضي، وبالإمكان أن نلاحظها قضائيا من خلال حجم الأحكام، التي تبدو في نظر الأمهات ولوعتهن ليست مجزية قانونيا ولا إنسانيا لوحوش يعيشون، بل عاشوا وقتا طويلا متعتهم في الرغد والاستثمارات والضحك بسخرية دائمة من مصير قتلاهم، من دون أن تتحرك ضمائرهم قيد أنملة، وكأنهم داسوا بأقدامهم مجموعة فئران موبوءة.

الوحشية الجديدة هذه المرة لم تكن كحكاية المعتقلين الذين قذفوا من السماء، وتركوهم يصرخون هلعا حتى يصلوا الأرض كزجاج مهشم، إنما المصادفة هذه المرة كشفت عن بشاعة جديدة لا يمارسها رجل يرتدي بزة عسكرية، فوحشيتها تقشعر لها الأبدان، فقد تساءلت فتاة تم تبنيها عن مصيرها ورغبت في التعرف على والديها الأصليين، وبعد تتبع الخيط اكتشفت أن أمها كانت معتقلة وحاملا، ففي السجن يتم خطف أولاد أولئك النساء وتتم المتاجرة بهم تحت غطاء التبني، ويقبض الجنرال ثمن بشاعته! وبذلك كدس ثروة على جسد نساء كثيرات كن حوامل في أثناء الاعتقال أو تم اغتصابهن في أثناء التعذيب، وبعد الحمل يتم استغلال مصنع الرحم والزنزانة باستيلاد المعتقلات، وإرسال أطفالهن إلى سوق تجارة التبني. ولم تكن ثماني سنوات مجزية للعسكري «المحترم» لإيداعه السجن مقنعة، فقد صرخت الضحايا محتجات بقوة، ومن حقهن أن يصرخن أمام قاعات المحكمة «إنها جريمة ثانية بحقنا».

* كاتب بحريني

back to top