أوهام التدفق الإخباري المختل

نشر في 21-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 21-07-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز يبدو أن حواسنا لا تدرك الأشياء كما هي عليه، ولكنها تدركها كما نحب أن نتخيلها، حتى وإن كان هذا الإدراك يتعارض مع المنطق والأدلة والشواهد في آن. فقد كّرس علماؤنا وباحثونا، خصوصاً في مجالات الإعلام، طرحاً مفاده أن «التدفق الإخباري العالمي مختل»، وهذا أمر لا يجادل فيه اثنان؛ فالتجارة العالمية أيضاً مختلة، وكذلك السياحة، والصناعة، وغيرها. ثمة دول تنتج وتصدر أكثر من دول أخرى، ولذلك فالاختلال قائم في التجارة العالمية؛ دول ذات عجز تجاري، وأخرى ذات فائض؛ دول تمتلك أدوات الصناعة، والتسويق، ومعها الإرادة، ودول تفضل أن تستورد كل شيء؛ بدءاً من الإبرة إلى الصاروخ.

لكن المقولة الثانية التي تم تكريسها أيضاً، وصارت طرحاً يشبه النظرية من كثرة ما تم التعامل معها على أنها حقيقة مطلقة؛ فهي تلك المقولة الخاصة باتجاه هذا الاختلال. فهؤلاء الباحثون، ونحن معهم، راحوا يقولون إن الاختلال في التدفق الإخباري العالمي يحدث من الشمال إلى الجنوب. فدول الشمال تنتج الأخبار، وتنسب معها الصفات والأدوار، وتؤطر الأحداث، وتسلط الضوء على القضايا المهمة من وجهة نظرها، ثم ترسلها إلينا في الجنوب، أما نحن فلا نرسل سوى عُشر ما نستقبل من أخبار تقريباً.

وتطورت المظلمة الخاصة بهذا «التدفق الإخباري المختل»، وصارت نظرية إعلامية قائمة بذاتها، وأنشئت من أجل مواجهتها المنتديات، وعقدت الندوات، وأجريت الأبحاث. وتبلورت جماعة بحثية ومهنية ذات شأن، أسمت نفسها «المدرسة النقدية في الدراسات الإعلامية»، وجماعة أخرى نذرت نفسها لمحاربة ما وصفته بأنه «التبعية الإعلامية».

كان هؤلاء الباحثون والناشطون يعتبرون أن «التدفق الإخباري المختل» سيؤدي إلى «سلب عقل الأمة»، وتحقيق أغراض «الغزو الثقافي»، و«تسليط الضوء على قضايا ليست ذات أهمية، وتغييب قضايا حيوية أخرى، ونزعها من الأجندة الإعلامية». والواقع أن الحديث عن «تدفق إخباري مختل من الشمال إلى الجنوب» هو محض وهم؛ والأخطر من ذلك أنه طرح «معوق»، ولا شك سوف يحرفنا عن اتخاذ الخطوات اللازمة لإصلاح أحوالنا في مجال الإعلام، بوصفه صناعة مثل صناعات أخرى كثيرة تعاني التدهور في بلادنا.

فالتدفق الإخباري العالمي مختل نعم، ولكنه مختل بين دول قوية إعلامياً، تمتلك منظومات إعلامية حيوية، وإرادة للمنافسة، وأخرى ضعيفة بليدة تستورد كل ما تستخدمه تقريباً بدءاً من المأكل والملبس، وحتى «فوانيس رمضان» وسجاجيد الصلاة، ومعها الأخبار والأفلام المصورة.

ففكرة أن كل دولة في الشمال هي مركز لتصدير الأخبار والصور للعالم الثالث المغلوب على أمره فكرة مضحكة حقاً، فكندا إحدى دول الشمال الغنية ذات الموارد والكتلة الحيوية الراسخة، وهي بمساحة في اتساع قارة، وعضو في منظمة الدول الصناعية السبع الكبرى، ويتمتع مواطنوها بمعدلات تنمية بشرية بين الأعلى في العالم، لكن هذا لم يمنع أنها تعاني خللاً في التدفق مع الولايات المتحدة خصوصاً. ففي بحث مهم أجري على عينة من الأطفال الكنديين في سن الثانية عشرة على مستوى البلد كله، تبين أن 35 في المئة من أطفال العينة لا يعرفون أنهم كنديون «لأنهم يتعرضون لوسائل الإعلام الأميركية فقط». خذ أيضاً أمثلة أخرى من القارة الأوروبية؛ فوسائل الإعلام الإيطالية ليست في كفاءة البريطانية والفرنسية. وهناك في أقصى الشرق لا يتمتع البلد الذي يمتلك أقوى ثاني اقتصاد في العالم (اليابان) بمنظومة إعلامية قوية. والأمر ينطبق بوضوح على دول مثل فنلندا، والسويد، والنمسا، والدانمارك، والنروج، وغيرها.

فالعبارة أو النظرية الخاصة بالتدفق الإخباري المختل يجب أن تصاغ على هذا النحو: « التدفق الإخباري العالمي مختل، والاختلال ليس في اتجاه واحد من الشمال إلى الجنوب كما قيل، لكنه في اتجاه واحد من الأقوى إلى الأضعف، أياً كان نصف الكرة الأرضية الذي يسكنه أيهما».

القوة والضعف في مجال الإعلام اختيار وليس إجبارا؛ فليس هناك أي حظر على الخبرة، والكوادر، والأجهزة والمعدات، والمال الذي ننفقه في كل شيء سوى بناء مقدراتنا الحقيقية.

ثمة دول عربية صغيرة عرفت هذا المعنى، وبدأت في بناء منظومات إعلامية قادرة على المنافسة وضبط الخلل. ورغم الاعتوارات المحيرة والضخمة لتلك التجارب، فإنها أثبتت، على الأقل، أن الطريقة الأمثل لعلاج الخلل في التدفق الإخباري العالمي ليست بلطم الخدود والاستسلام للأمر الواقع، أو الحديث عن مؤامرة كونية يستهدف بها الأقوياء في المركز الضعفاء في الأطراف. الطريقة الأمثل لعلاج الخلل في التدفق الإخباري العالمي هي بناء وسائل إعلام قوية على أسس مؤسسية، تتبنى المعايير الاحترافية الدولية في العمل الإعلامي، وتتمتع باستقلالية عن مالكيها، فتحظى بالصدقية والإقبال.

 

كاتب مصري

back to top