النظام العربي... من امتناع الحلول إلى إمكانية التحلّل

نشر في 20-11-2007
آخر تحديث 20-11-2007 | 00:00
 ياسين الحاج صالح

النسق التقليدي للتفاعلات العربية كان يقوم على أن الدول العربية لا تستطيع أن تدير ظهرها لبعضها، ولا أن تتكاتف وتتعاضد، ولا تستغني عن بعضها ولا تثق ببعضها، بل تلتصق ببعضها التصاقاً كيدياً، فهل هذا النسق آخذ في تحول عميق بدءاً من المركز المشرقي، المعتل أصلاً، باتجاه تبعثر الدول وانفراط عقد مجتمعاتها؟

لا تنفي القضية الثانية من القضيتين الآتيتين القضية الأولى:

1 - إن الدول العربية القائمة مستقلة عن بعضها، ومن غير المحتمل أن تشكل تكتلاً سياسياً أو أمنياً مستقلاً في المديين القريب والمتوسط.

2 - إنه من غير المحتمل أن ينجح تغيير ديموقراطي أو تقوم وطنية عقلانية في أي دولة عربية بمفردها.

الفكرة التي ربما تقترح تفسيراً متسقاً لهاتين القضيتين المتناقضتين ظاهرياً هي وجود نظام إقليمي عربي أساسه ثقافي وجغرافي، أي شبكة تفاعلات سياسية وأمنية ونفسية، تقوم تأسيسا ًعلى استقلال مكفول مؤسسياً للدول بعضوية الأمم المتحدة، وأمنياً بانخراط دوله، كل على حدة، في تحالفات وتفاهمات مع الأقطاب الدولية النافذة، ضامنة كياناتها واستقرارها واستقلالها عن نظيراتها العربيات و عن غيرها.

أي أن النظام الإقليمي العربي متمفصل مع النظام الدولي القائم على دول مستقلة وذات سيادة، وعلى هيمنة قطبية أميركية راهناً، ومع نظم دولية فرعية (النظام الشرق أوسطي مثلاً)، بما يبقي دوله مشدودة إلى مركز أو مراكز خارجها لا إلى مركز واقعي أو افتراضي داخلها.

فوجود النظام العربي بالخصائص المشار إليها هذه هو بالضبط ما يصون استقلال الدول العربية عن بعضها وتباعدها في ما بينها، أو غلبة قوى التنابذ في ما بينها على قوى التجاذب، كما أن النظام نفسه هو شبكة تفاعلات تمس موضوعياً استقلال الدول، وهو ما يضعف احتمال أن تقوم تغيرات أساسية ومستدامة في إحدى دوله، وببساطة إن أياً من الدول العربية لا تشكّل وحدها، إطاراً لتغيير سياسي أساسي، لأن الديموقراطية ممتنعة في أي بلد عربي لوحده.

ولاريب بالطبع أن شبكة التفاعلات بين الدول المشرقية أكثف من تلك القائمة بين الدول المشرقية والمغربية، وأنه يمكن تمييز نظم عربية فرعية أربعة هي في العادة: المشرق، الجزيرة والخليج، وادي النيل، والمجال المغاربي... والتفاعلات الداخلية لكل منها أكثف من التفاعلات مع غيرها، مما يتيح استقلالاً نسبياً لتغيرات بعضها.

والبعد الجغرافي عامل أساسي في هذا المجال، فالتغيرات المغاربية أدنى تأثيراً في المشرق منها في وادي النيل، والعكس بالعكس من حيث المبدأ، والنظام الخليجي أقل تأثراً بغيره نسبياً بسبب وثاقة صلته بالمركز الأميركي النافذ، والنظام المشرقي هو الأقل استقراراً بفعل العامل الإسرائيلي والتعددية الأهلية غير المستوعبة مؤسسياً في المجتمعات المشرقية، ولعل البعد عن المركز هو ما أتاح عملية تغيير مهمة في موريتانيا، وإن يكن من المبكر الحكم على مدى جديتها واستدامتها، وإن يكن فقر البلد أيضاً يحدّ من تأثيره في غيره.

في المجمل تترابط الدول العربية قوميّاً حيث لا ينبغي، وتتباعد حيث يفترض أن تترابط، فهي تتشارك وتظهر تقارباً فعّالاً في ممانعة التغيير وتقييده وسد الثقوب التي قد تفد منها رياحه، وتتباعد حيث ينتظر منها التكتل والتعاون الفعّال. بيد أن هذه خصائص بنيوية للنظام، وليست اختيارات سياسية قصدية، فالنظام الذي يعرض وجهه الأول والمعوق للتغيير المنفرد هو نفسه النظام الذي يعرض وجهاً ثانياً مضاداً للتكتل الجماعي، على أن السياسات الحكومية التي يؤطرها هذا الواقع باتت تعمل بدورها على تثبيته وإعادة إنتاجه.

النظام العربي أساسه قومي من خلال شراكة الدول العربية في اللغة والثقافة، وهي شراكة تستبعد إيران وتركيا في المشرق، فضلاً عن إسرائيل؛ وتُُقصي دولاً أفريقية قريبة من وجوه متعددة للدول العربية المجاورة لها في أفريقيا، لكن تفاعلات النظام غير تشاركية وغير تعاونية، بل هي تنافسية و«تحاسدية» وقائمة على محصلة صفرية «ما يكسبه طرف يخسره آخر، لذلك ينبغي ألا يكسب أي طرف... فإن شاء طرف ما حماية مكاسبه ارتبط بقوى خارجية نافذة». بعبارة أخرى: النظام أو البنية عربية لكن السياسات والإرادات ليست عربية.

وهذا مزيج (مزاج) سيئ، وهو ما أهّل لسياسة المحاور وعمليات قد يتمخض عنها في الأمد المتوسط أنظمة فرعية مختلطة تمعن في تمزيق واهتراء النسيج العربي، منها مثلاً المحور السوري الإيراني، الذي ترتبط به تكوينات أدنى من الدولة مثل «حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في فلسطين. وهنا نجد نمط تفاعل غير مألوف، يشترك فيه طرف غير عربي من جهة، مع أطراف أهلية عربية من جهة أخرى، وتبدو التفاعلات السورية الإيرانية أقوى بكثير من تفاعلات سورية مع جوارها العربي، وبالمثل تبدو تفاعلات «حزب الله» مع إيران وسورية أقوى من تفاعلاته مع شركائه اللبنانيين، ومثل ذلك ينطبق بدرجة ما على «حماس».

وفي العراق تجتمع حركة تفكك الدولة وتحطم المركز الموحد للبلد المنكوب مع انجذاب شظاياه إلى محاور إقليمية وعربية ودولية متنوعة، فتبدو إيران نافذة الكلمة في وسط الحكومة والقوى الشيعية في عراق ما بعد صدام، خصوصاً نصفه الجنوبي، أما الشمال الكردي فأقرب إلى المهيمن الأميركي، وربما لإسرائيل حضور مؤثر فيه، ويبدو اليوم واقعاً في فلك تجاذب أميركي تركي لا تأثير للسلطة المركزية المفترضة في بغداد فيه، وأقل منها أيضا تأثير الدول العربية.

أما الوسط العراقي، الذي أطلق عليه الأميركيون اسم «المثلث السني»، فمنجذب نحو الدول العربية، سورية والسعودية أساساً، لكنه كذلك حيز الوطأة الأقسى للعنف المقاوم والأهلي الذي يجتاح العراق.

وينقسم لبنان إلى ائتلافين، 14 آذار و8 آذار، تغلب تفاعلات كل منها مع حلفائه الخارجيين على تفاعلاته مع الائتلاف الآخر، مما يعني عملياً أن لبنان لم يعد وطناً وأن اللبنانيين ليسوا شعباً، والنموذج نفسه في فلسطين، ولعل منازعات السودان الداخلية وانجذاب أقاليمه إلى قوى إقليمية أو دولية يستجيب لنفس النسق.

وليس هذا النسق إلا حصيلة انتقال فاعلية فقدان المركز وضعف الجاذبية الداخلية من المجال العربي إلى مجال الدول المفردة، فقوة الجذب الخارجية بلغت حداً تحطمت عرى التماسك داخل المجال العربي تحت تأثير تفوقه على قوى الجذب الداخلية الضعيفة.

كان النسق التقليدي للتفاعلات العربية يقوم على أن الدول العربية لا تستطيع أن تدير ظهرها لبعضها، ولا أن تتكاتف وتتعاضد. ولا تستغني عن بعضها ولا تثق ببعضها، بل تلتصق ببعضها التصاقاً كيدياً، فهل هذا النسق آخذ في تحول عميق بدءاً من المركز المشرقي، المعتل أصلاً، باتجاه تبعثر الدول وانفراط عقد مجتمعاتها؟ وهل تفاقمُ انفلاش (انفتاح مع زوال المركز) النظام العربي إلى حد التفكك والدوران في فلك أجرام إقليمية ودولية أقوى جذباً، هو مسارٌ نهائي وغير عكوس؟ وهل هذا التحلّل هو المآل الطبيعي للنظام العربي الذي راكم عجزاً فوق عجز عن حل مشكلاته المزمنة؟

كل هذا يجري في التاريخ، ويمكن فهمه... لكن إلى أين يجري التاريخ؟

* كاتب سوري

back to top