كازاخستان... بين تحديات المكان وتوازنات الزمان
تتمثل تحديات المكان لكازاخستان في حدودها الطويلة المشتركة مع العملاقين روسيا والصين، وتقدم مثالاً فريداً لقدرة الدول الصغيرة على صيانة مصالحها الوطنية وحمايتها أمام تحديات المكان باستخدام توازنات الزمان.ينطلق المنطق التحليلي والفلسفي للظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية من وجود قيدين أساسيين هما: المكان الذي تنشأ فيه هذه الظاهرة، والزمان الذي تتطور فيه، وينطبق ذلك المنطق على كازاخستان تماماً، إذ يشكل هذا البلد المترامي الأطراف والواقع في آسيا الوسطى درساً نموذجياً لتحديات مكان جبارة ولحسن استثمار التوازنات السياسية في زماننا المعاصر. وإذا كانت الجغرافيا هي قدر الأمم، فإن التاريخ هو وعيها الجمعي، والسياسة هي وسيلة حركتها نحو تحقيق أهدافها. وتتمثل تحديات المكان لكازاخستان في حدودها الطويلة المشتركة مع روسيا التي تحيط بها من الشمال والغرب وبطول 6800 كيلومتر، والصين من الشرق ويبلغ طول الحدود المشتركة معها 1500 كيلومتر، وإذ تبلغ مساحة كازاخستان مليونين وسبعمئة ألف كيلومتر مربع، وهو ما يجعلها تاسع أكبر بلد من حيث المساحة في العالم، فإن عدد سكانها يناهز خمسة عشر مليوناًً فقط. إلى هنا ربما تبدو الأرقام ضعيفة الدلالة، ولكن إذا ما علمنا أن روسيا التي تحيط بكازاخستان من الشمال والغرب هي أكبر دول العالم من حيث المساحة، وأن الصين التي تحيط بها من الشرق هي أكبر دول العالم من حيث عدد السكان فإننا نستنتج الضغوط التي تفرضها الجغرافيا على كازاخستان. لا تقتصر تحديات المكان لكازاخستان على الوقوع بين العملاقين المذكورين فقط، بل إن عدم قدرتها على إيصال أهم مواردها (النفط) إلى السوق العالمي؛ يضاعف التحدي المكاني المفروض عليها، لا تقع كازاخستان على بحار مفتوحة، على العكس من دول الخليج العربية، إنما على بحر قزوين المغلق. ويشكل هذا التحدي المزدوج مأزقاً جغرافياً يعود ليترافق مع معضلة قانونية، وهي غياب الأسس التعاقدية لتقسيم موارد منطقة بحر قزوين بين الدول المطلة عليه. حصلت كازاخستان على استقلالها عن روسيا عام 1990 بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وقطعت من هذا التاريخ حتى اليوم أشواطاً بعيدة في تحصين قدراتها الذاتية، وفي موازنة الضغوط الجغرافية بتحالفات دولية وإقليمية مكنتها من الحفاظ على هذا الاستقلال. تطلب الأمر أن تتنازل كازاخستان عن قدراتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، كي تحظى بموافقة روسيا وواشنطن على الاستقلال السياسي، وهكذا تخلت الدولة التي استضافت على أراضيها 470 تجربة نووية سوفييتية في الفترة من 1949 حتى 1989 عن حقها في وراثة نصيبها من التركة السوفييتية، وأبدلت كازاخستان عاصمتها من ألما آتا العاصمة الجديدة في الجنوب الشرقي على الحدود مع قيرغيزستان وقريباً من الحدود الصينية، إلى أستانا في وسط البلاد في محاولة لموازنة الاختلال مع الصين، واحتفظت كازاخستان بمسافة ضرورية في علاقاتها مع الجارين الكبيرين، فهي لا تقدر على التصادم معهما ولا تستطيع الارتماء في أحضان أي منهما في الوقت نفسه، ولذلك فقد طورت كازاخستان علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية لموازنة القطبين الكبيرين اللذين يحاصران جغرافيتها، ولكن من دون أن تقطع مع أي منهما. باختصار حولت كازاخستان مأزقها الجغرافي المشدود إلى توازنات ثنائية القطبية روسية-صينية، لتجعل هامش مناورتها السياسية يدور على مثلث أضلاعه كالتالي: واشنطن أولاً وموسكو ثانياً وبكين ثالثاً. انضمت كازاخستان إلى «مجموعة شنغهاي» منذ تأسيسها عام 1996 في المدينة الصينية التي أخذت المجموعة اسمها، إذ توصلت الدول المؤسسة: الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، إلى اتفاق يقضي بجعل مناطق الحدود في ما بينها منطقة منزوعة السلاح. ويعد موضوع الأمن الإقليمي في منطقة آسيا الوسطى أحد الأفكار المؤسسة لقيام المجموعة، فالصين التي تشترك بحدود طويلة مع دول آسيا الوسطى ترغب في تطويق الآمال الاستقلالية للقومية الإيغورية الموجودة على أراضيها، وهي القومية التي تجد في الدول المجاورة امتدادها العرقي والديني. من ناحيتها ترغب روسيا في تطويق التأثير الاستقلالي للحركات الإسلامية في القوقاز، والحيلولة دون اتساعه ليشمل جمهوريات آسيا الوسطى، التي كانت منذ عهد القياصرة الروس امتداد روسيا الممتاز نحو الجنوب، ومنطقة نفوذها التقليدية وحديقتها الخلفية، أما كازاخستان فلها في «مجموعة شنغهاي» مصلحة أكيدة، رغم أنها لا تعاني قلاقل سياسية ومعارضة إسلامية على غرار تلك المنتشرة في جمهوريات آسيا الوسطى مثل طاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، ويعد هدف تنويع وتطوير العلاقات مع الجارتين القويتين روسيا والصين بالترافق مع علاقات ممتازة تربطها بواشنطن، أهم أهداف كازاخستان في الانضمام إلى التكتل الإقليمي المذكور. ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة علناً على السياسة الخارجية لكازاخستان؛ التي استعاضت بقوة علاقاتها الخارجية مع الولايات المتحدة على خفة موازينها العسكرية والديموغرافية في منطقة آسيا الوسطى، وفي الوقت نفسه استقوت كازاخستان بحضور جارتيها العملاقتين، روسيا والصين، لمنع طغيان شراكتها الدولية مع واشنطن على صناعة قرارها الوطني. شهد العقد الأخير طفوراً للدور الكازاخستاني على الصعيد الإقليمي في آسيا الوسطى، بعد أن أصبحت منطقة بحر قزوين أحد أهم مراكز الثقل الاستراتيجي عالمياً، وأحد ميادين التنافس الرئيسة بين القوى العظمى، ومركز الدائرة التي تدور عليها الصراعات الدولية والإقليمية في تلك المنطقة وجوارها. وتقدم كازاخستان مثالاً فريداً لقدرة الدول الصغيرة على صيانة مصالحها الوطنية وحمايتها أمام تحديات المكان باستخدام توازنات الزمان، بمعنى آخر تعلمنا كازاخستان القدرة على مواجهة العمالقة باستخدام لغة المصالح وبالفهم العميق لتوازنات النظام الدولي. * كاتب وباحث مصري