أمْرنة الشعر... عودٌ على بدء

نشر في 19-10-2007 | 00:00
آخر تحديث 19-10-2007 | 00:00
No Image Caption
وصل التذمر من شيوع ظاهرة الاستكتاب الشعري حدّاً يلفت النظر، لاسيما عند المتنورين من شباب هذا الجيل من الشعراء والكتّاب من كلا الجنسين، الأمر الذي دفع العديد منهم أثناء تطرقهم للحديث عن هذه الإشكالية إلى أن يلوذوا خلف ستار اللغة المرن الفضفاض في محاولة منهم للمساهمة، ولو بجزء بسيط، لكشف هذه الظاهرة بعيداً عن التعريفات الجاهزة، أو في محاولة بائسة للّف والدوران والدخول في مسميات وإيماءات تتعلق بهذا الإشكال الموجود في الساحة، وأصبح الأمر مكشوفاً لكل متتبع لأحوال الشعر الشعبي في المنطقة، بمن فيهم أصحاب الطبقات العليا من المجتمع، ولكي يكون الأمر مقنعاً لا بد من مناقشته في منأى عن التلميحات والإيماءات، أو الإحساس بأي شعور قد لا يخدم الموضوع، ما أمكننا هذا الإجراء، لهذا سنعمل على تسمية الأشياء بمسمياتها، ونتحدث عن شعر الأمراء والشيوخ في المنطقة بكل وضوح وجلاء وشفافية، وحتى يكون الأمر قابلاً للإقناع من دون التجديف والهرطقة، لا بد من الاعتراف حقيقة بوجود جوانب إنسانية مضيئة في شعر الأمراء والشيوخ، ولا نحاول صب سيل وابل من التهم على كل ما يأتينا من هؤلاء القوم، مع تسليمي بمبدأ الشك في هذا الجانب، لأنه مبدأ فلسفي عظيم، وصار من الخذلان الاستسلام لهذا العبث الاستقراطي بالذائقة الفنية للشعر من دون تسجيل أي محاولات للاحتجاج أو الاعتراض، وصار من الغباء في الوقت ذاته كمكمة الأفواه في زمن العولمة، والاكتفاء أو الرضا بمجرد اللف والدوران من دون الدخول في صلب الموضوع مباشرة.

إن الخوف الكامن فينا، نحن الذين زرعناه فينا وسيّجْنا أنفسنا فيه، واستسلمنا له مع تقادم الزمن، إلى أن أصبح من المسلمات الاجتماعية التي لا نقبل النقاش بشأنها.

الأمراء والشيوخ رجال، كما نحن رجال، وقد قال هذا رجل خير مني عن رجال هم خير منهم، حينما قال الإمام أبو حنيفة النعمان عن الصحابة الكرام، إن كل واحد منهم فيه من العيوب ما فينا من العيوب وأكثر، و«كما تكونون يولّى عليكم»، فلا نحاول رمي التهم عليهم وندفن رؤوسنا في الرمال كما تفعل النعام.

هناك من الأسماء الأميرية التي تستحق الإشادة والاهتمام والمتابعة، كالشاعر الأمير خالد الفيصل والشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن والشاعر الأمير عبد الرحمن بن مساعد، وقد بيّنت سبب الاهتمام بهم في موضوع لي بعنوان «أمْرنة الشعر... أو الشعراء الأمراء»، وقد لامني غير واحد من الأخوة الذين يتابعون ما أكتب، أنني أغفلت الشاعر الأمير سعد آل سعود، ودافعت عن هذه النقطة بأن سعد آل سعود يسير في نفس الخط البياني الذي يتحرك من خلاله خالد الفيصل وكذلك الشاعر المرحوم سعود بن بندر، مع وجود فوارق واضحة بين الشعراء الثلاثة، حسب النهج الذي انتهجته في ذلك المقال، وهي المباشرية في الطرح، مع تفوق كبير وواضح لخالد الفيصل عليهما في هذا المجال.

إن هؤلاء الثلاثة (خالد وبدر وعبد الرحمن) ساهموا في رقيّ الشعر الشعبي باتجاهات مغايرة، حيث لكل واحد منهم خطه البياني الشعري الخاص به المختلف عن صاحبه، وخصوصيته الفردية التي تحدد ملامح تجربته الشعرية، وفي ظل هذا الوضع المتدهور للشعر بما في هذه الساحة من أسماء جميلة وكبيرة وذات ثقل اجتماعي وفني، سواء من قِبل الشعراء الأمراء أو من زملائهم في الحركة الشعرية من الشعراء الآخرين، يجعلنا نتساءل عن سبب هذا التراجع الفني للشعر هذه الأيام، وشيوع ظاهرة الببغاوات وصراع الديكة، التي طفت فوق السطح، وشكلت هذه الأيام ملامح المشهد الشعري في المنطقة.

إن المتأمل في هذه الحالة يدرك أن «المختلف»، وبعد سنوات من ظهورها، لاسيما بعد خروج الجميلين شعريّاً وتسلّمها من قبل العابثين واللامسؤولين، سواء على مستوى الضمائر أو الأداء الفني أو الأداء الشعري الخلاّق، هم من بذروا هذه البذرة الخبيثة، ولا ننكر في هذا الصدد ما للمحاورات الشعرية من أثر سلبي بارز في هذا المجال، لهذا فمن الواجب وانطلاقاً من مسؤولية الكلمة لابد من الوقوف أو تسجيل المواقف للتاريخ إن لم تكن هناك قدرة على التغيير، احتجاجاً على هذا التشظي الخطير للساحة الشعرية.

إن تضخم هذا الوضع يجعلنا نتساءل: من المسؤول الذي قدم لـ «المختلف» وأشباه «المختلف» هذا الظرف على طبق من ذهب؟... إنه حقيقة، هم من يتحملون كطبقة اجتماعية لا كأفراد، كما نتحمل نحن كقراء ومتابعين وكتاب وشعراء هذه المسؤولية أيضاً، حينما صار الجميع يتساقطون على قراءتها تساقط الفراشات في النار الحارقة، وكذلك لأن الجمهور كشريحة اجتماعية هم من تسابقوا للبيع وتقديم التنازلات، ومن ثم ساروا كجوقة مطبلة لهذا أو ذاك من الأمراء والشيوخ مع علم العديم منهم بضعف تجربته الشعرية، أو تغامزهم فيما بينهم حول مسألة البيع والشراء التي تجري خلف الكواليس، غير أن العبء الثقيل يقع عليهم كطبقة أرستقراطية، لأن عملية البيع والشراء للضمائر قبل النصوص خرجت من القصور لا من الأرصفة والشوارع، وقد أدى هذا التراجع إلى الإضرار بالجميع بمن فيهم الشيوخ والأمراء، فأين بدر بن عبد المحسن على سبيل المثال الذي انزوى عن الأنظار وترك المشهد الشعري لمن لا يستحق من الشعراء ؟!

وهذا الإجراء الحاصل، ترتب عليه ظهور شعراء لا يستحقون البروز الإعلامي، لأنهم لا يملكون من مقومات الشعر إلا الصراخ والتضخيم الأحمق للذات، وهي قضايا وانعكاسات نفسية لا تمتّ للشعر بصلة، لهذا صار من الطبيعي عندما لا تغرد البلابل، تستعذب الأنفس المهزوزة والآذان الفارغة نعيق الغربان.

نعم... إنها مسؤولية الجميع، سواء كانوا شيوخاً أو أفراداً عاديين، أو أصحاب سمو ملكي أو متسكّعين بسطاء لم يجدوا لهم موطئ قدم يسيرون عليه ولو فوق أتعس الأرصفة.

back to top