قاتل المليونير والشغّالة يحلم بالطيران ... الى حبل المشنقة!
الجريمة خلقها البشر. وجدت مذ خلق الله آدم أبو البشر جميعا. هي سلوك عدواني يلحق ضررا بالفرد والمجتمع. لم تنجح أي وسيلة في أي زمان أو مكان لمنع وقوع الجرائم. إنها جزء لايتجزأ من السلوك الإنساني وأحد مكونات الحياة في أي مجتمع، أياً تكن ثقافته أو مستواه الحضاري.
رغم التقدم التقني الذي شهده العالم في مجال اكتشاف الجرائم ومكافحتها فإن المجرمين يقومون في خط مواز بتطوير أساليب جرائمهم في محاولة لتضليل السلطات عن مطاردتهم وإنزال العقاب بهم.بخلاف ما يسمى «المجرم بالصدفة» الذى يرتكب نوعا من الجرائم من دون إعداد أو تخطيط مسبق، ثمة المجرمون العتاة الذين يتميزون بتركيبة إجرامية ذات سمات خاصة وتفشل كل الطرق فى إصلاحهم وتهذيبهم كما تفشل كل أنواع العقاب، مهما بلغت قسوتها، في ردعهم.عالم الجريمة مثير لما ينطوي عليه من رعب وتشويق. وإن كان عالماً صغيراً، إلا أنه يعكس الحياة البشرية بأكملها إذ يمثل حالة الصراع الدائم بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين القوة والضعف، بين الفضيلة والرزيلة.نقدم هذا العالم الغريب في حلقات متتالية، من مصر بلد التاريخ والحضارات المختلفة، بلد الجوامع والكنائس، بلد الهرم والنيل، لكن أيضا بلد «الخط» وريا وسكينة والتوربيني. في بداية التسعينات من القرن الفائت، انشغل العالم الغربي بالفيلم السينمائي «قاتلون بالغريزة» وطالبت وسائل الإعلام في أوروبا بمنع عرضه الفيلم إذ قد يدفع المشاهدين ويشجعهم على ارتكاب الجرائم ويشجعهم. يقول أحد المراقبين المسؤولين عن الأفلام إن بعد عرض هذا الفيلم ارتكبت عشر جرائم قتل في الولايات المتحدة الأميركية وحدها وثلاثاً في فرنسا بتأثير منه إذ يظهر القاتل في صورة البطل الذي يجب الاحتذاء به.طرح الفيلم في الندوات والبرامج مشكّلاً مادة حوار ومناقشة. حذرت الصحف من تأثيره على سلوك الشباب إذ لا يزال موضوعا العنف والجريمة الأكثر أهمية وعلى رأس القضايا الاجتماعية. هذا امر متوقع في مجتمعات لم يعد فيها الإنسان العادي أمينا على نفسه وعلى أفراد عائلته في حال خروجهم الى الشارع أو خلال وجودهم داخل منازلهم وأحياناً يأتي السلوك الإجرامي من العائلة نفسها.لا يرتبط السلوك الإجرامي عامة بطبقة أو بيئة او بمستوى ثقافي أو بمرحلة عمرية. قد يرتبط نوع السلوك بالمحددات السابقة لكنه يشكل كفعل إجرامي عدوانا على الناموس الاجتماعي لا يرتبط بأي تحديد. التركيبة الإجرامية متماثلة لدى أكثر المجرمين لذا تجد في السجن العاطلين والمثقفين والأميين معاً كذلك حملة الدكتوراه قرب قاطعي الطريق. جميعهم مجرمون لا يستحقون ذرة عطف ولا مجال لالتماس الأعذار لهم.المجرم موضوع حلقة اليوم شخص عدواني بالفطرة يرتكب جريمته مهما يبلغ قبحها لإشباع حاجة في نفسه المعتلة رغم توافر مباهج الحياة كلّها له. والده لواء متقاعد أمن له أنواع الترف كافة، يقود أحدث السيارات ويسكن في احد أرقى أحياء القاهرة. يشترك في رحلات الصيد، يهوى الفروسية، يقود الدراجات النارية ويرتاد أرقى نوادي القاهرة مع أولاد الذوات. أنيق يرتدي أحدث صيحات الموضة. لو تعاملت معه تجده مهذبا سخياً. حائز شهادة G.C.E الأجنبية. إنه أحمد حلمي الذي شغل الرأي العام في مصر شهوراً عام 1991 بعدما قتل أحد أصحاب الملايين وزوجته وخادمته مرتكباً سرقات كثيرة كان أشهرها سرقة شقة الفنانة مها صبري واقتحام فيللا العالم المصري الدكتور أحمد شفيق فاشتهر بلقب سفاح العجوزة. يقول أحمد حلمي في اعترافاته: «أنا مجرم لا أستحق أن يتعاطف مع ي أحد. قتلت مع سبق الإصرار بهدف القتل لا السرقة. لا تفسروا أفعالي بأنها نتيجة تفكك أسري. أنا المسؤول عنها وحدي ولا ذنب لأسرتي ولا أسباب نفسية دفعتني إلى ذلك كما لم أشعر بتأنيب الضمير إلا حين قتلت الشغالة. أما المليونير وزوجته فنسيتهما تماما. كنت أحلم بأن أكون طياراً. الآن أحلم بالطيران أيضا، إلى ما لانهاية ، إلى حبل المشنقة. حطم والدي حلمي ومنعني من الالتحاق بالثانوية الجوية بعدما كنت قدمت أوراقي فيها عام 1983. كان مستقبلي سيتغير تماماً لو دخلت الثانوية الجوية ثم كلية الطيران، لكن أمي التي انفصلت عن أبي وهي حامل بي اتفقت معه على منعي من ذلك. أحسست بعد ذلك بأنني محطم وأصبحت مخلوقاً مختلفاً تماماً. كنت أفكر بمفردي في اغتيال شخصيات معروفة أو في تفجير سفارات أجنبية... لم يكن أبي صديقا لي البتة. حاولت كثيرا خلق التفاهم بيننا إلا أن محاولاتي باءت دائما بالفشل. كان يحبني كثيراً لكنه كان عنيفا جدا. كان ثمة الكثير من المشاكل العائلية في منزلنا وأحسست وقتئذٍ بأنني أريد الخروج من مصر فسافرت إلى العراق. بمجرد نزولي في مطار بغداد ركبت التاكسي متوجهاً إلى مركز تطوع في الجيش العراقي لمحاربة إيران. تابعت تدريبات خاصة منتقلاً بالفعل إلى جبهة القتال حيث حاربت لثلاثة شهور لكني خفت على والدي فعدت إلى مصر».بدأت فصول القصة الدامية يوم 7 أبريل عام 1991، حين وجد المليونير حامد مندور وزوجته وخادمتهما مقتولين والشقة مسروقة. مع ذلك كانت تفاصيل الحادث تشير إلى وجود دافع غير السرقة وراء القتل. عثر على جثة المليونير في أحد الشوارع القريبة من بيته في حين وجدت جثة زوجته وخادمتهما في الشقة. تم تشكيل فريق بحث بقيادة مدير إدارة البحث الجنائي في الجيزة الذي بدأ عمله بفحص لائحة المطلوبين في جرائم السرقة فضلاً عن الأشخاص الذين لهم علاقة بالمليونير بينهم المهندس رأفت وشقيقه الصيدلي اللذان قضيا فترة عقوبة في السجن بعد الحكم عليهما في جريمة مخدرات وكان المليونير القتيل هو الذي أبلغ عنهما. توصل رجال المباحث بعد التحقيق معهما إلى اسم أحمد محمود حلمي المسجل لدى الشرطة على لائحة مرتكبي سرقة المنازل. كان التقى رأفت وشقيقه في السجن وربطت بينهم علاقة صداقة فعرف منهما معلومات كثيرة عن رجل الأعمال المليونير حامد مندور. توقف رجال المباحث عنده لا سيما أوصافه التي تكاد تتطابق مع أقوال الشهود الذين أدلوا بمعلومات عن قاتل المليونير: شاب طويل ونحيل، أبيض اللون، له أنف بارز. بُدء البحث عن أحمد حلمي.كان أحمد يقطن مع زوجته في شقة مفروشة في شارع السودان. تركها منتقلاً إلى شقة أخرى في حي المعادي. شكلت لحظة وصول الشرطة إليه أكبر مفاجأة في حياته لأنه كان متيقناً من نجاح جريمته وأجرى جراحة تجميل وغيّر شكل أنفه. كان تذكر ليلة الحادثة أنه ترك بصماته على سيارة القتيل فعاد إليها مرة جديدة ورشها بسائل إطفاء الحريق لإخفاء الأثر. بدأت تفاصيل الجريمة تتضح أمام رجال المباحث. حاول أحمد اقتحام شقة المليونير لسرقتها لكنه فشل في ذلك. انتحل صفة ضابط شرطة فقصد القتيل طالباً منه مرافقته إلى القسم لأخذ أقواله حول البلاغ المقدم منه بخصوص محاولة اقتحام الشقة. استقل سيارة القتيل ثم توقف به في مكان شبه خالٍ مطلقاً عليه الرصاص من مسدس مزود بكاتم للصوت. بعد ذلك عاد إلى شقة القتيل. فتحت له الشغالة الباب وكان اعتقد أنها غادرت الشقة. قال لزوجة القتيل إنه عاد ليحرسها حتى يعود زوجها خوفا من عودة اللص. انتظر قليلا ثم أطلق رصاص مسدسه الكاتم للصوت على الخادمة ثم على سيدة المنزل زوجة القتيل. رأته إحدى الجارات فأطلق عليها رصاصة لكنها لم تصبها. ثم أطلق عيارا آخر لإرهاب البواب وعدد من المصلين الذين كانوا خارجين من المسجد المجاور للعمارة. ثم واصل هربه في هدوء معتقداً أنه لم يترك خلفه دليلا واحدا.يقول أحمد: «الخطأ الوحيد في الموضوع هو رأفت. تصوّرت أن رجال المباحث لن يشكوا فيه لأنه لم يكن يعرف خطتي لقتل المجني عليهم وأنا لم أشركه معي». مضيفاً: «أنا قتلته بالفعل مع سبق الإصرار حتى في حال نجحت في السرقة كنت سأنتظره وأقتله. القتل صعب وخاصة السيدات، لكن كان هدفي قتل الرجل وزوجته فحسب وحين أقرر شيئا لا بد من أن أنفذه مهما يكن الثمن، أما الشغالة فحظها سيئ لأنها تنصرف عامة آخر النهار ولا أعرف ما الذي جعلها تبقى تلك الليلة للمبيت».أصر أحمد في التحقيقات على ارتكابه الجريمة البشعة وهو بكامل قواه العقلية وأنه كان يبيت النية على ذلك. قال أثناء تحقيق النيابة معه في قضية سرقة سابقة أنه سينتقم من رجال الأمن بارتكابه جريمة كاملة بحيث يفشل هؤلاء في التوصل إلى معرفة الجاني انتقاما منهم لأنهم قبضوا عليه. صحيفة سوابق أحمد تقول إنه اشترك في سرقة شقة الفنانة مها صبري عام 1980 وكان عمره وقتذاك 14 عاماً ثم اتهم في سرقة عدد من المنازل والسيارات ودخل السجن للمرة الأولى عام 1986 وخرج منه عام 1989. خلال تلك الفترة ساعد أحد المتهمين في جريمة قتل على الهرب من قاعة المحكمة ويدعى عاطف زخاري.يعترف أحمد: «عقب سرقة شقة الفنانة مها صبري عاقبني والدي بأن باع حصاني الذي سبق أن اشتراه لي من نادي الفروسية ومنعني من الذهاب إلى النادي، ثم باع الموتوسيكل. كان الحصان والموتوسيكل هما كل شيء في حياتي».عن علاقته بعاطف زخاري قال: «التقيت به في العراق عام 1983. مرت السنون وقابلته في السجن. عرفت منه أنه متهم في جريمة قتل وأنه ينتظر حكما بالإعدام. قال لي: عايز أهرب، قلت له ومستنى إيه؟ قال محتاج سلاح. كنت عملت فترة كتاجر سلاح، فأعطيته عنوان أحد تجار الأسلحة وكلمة سر معينة فقصده ابن أخته فاشترى منه مسدساً. أعطاه إلى عاطف في المحكمة داخل علبة مناديل استخدمه هذا الأخير في الهرب من قاعة المحكمة... نجحت الخطة. حين حقق البوليس مع ابن اخته أفاد عن مكان التاجر الذي دللته عليه، وبما أن التاجر كان يعيش في منطقة يصعب على الشرطة اقتحامها قالوا إن والدي هو الذي أحضر المسدس وهذا غير حقيقي. لكن بعد القبض على عاطف اعترف بالحقيقة». يتابع: «أنا أسرق لأنني في حاجة إلى النقود. حين أجد نفسي مفلسا أقرر أن أفعل شيئا ما، ثم أنسى تماما ما فعلت وأعود إلى حياتي الطبيعية. لا أبوح بأفكاري لأحد ولا يستطيع أحد أن يؤثر فيّ ما عدا زوجتي الوحيدة التي تستطيع ذلك. نفسي بابا ينساني، أنا أصبحت شخصاً مختلفاً غير الذي رباه. خلق مني السجن بالذات إنساناً مختلفا تماما. تعلمت فيه أن أشك في كل شيء حولي كما تعلمت فيه كل شيء سيئ، بدءاً من تجارة المخدرات وانتهاء بالسياسة، إذ كنت أسمع عن التنظيمات السرية وأردت الانخراط فيها».في سجل أحمد الإجرامي واقعة في غاية الغرابة، تفاصيلها في البلاغ الذي تقدم به الدكتور والعالم الكبير أحمد شفيق صاحب الاكتشافات المعروفة في علاج الأمراض المستعصية، يقول فيه: في اليوم الثاني من شهر رمضان عند الساعة العاشرة فوجئت بشابين يقتحمان الفيللا، إدّعيا في البداية أنهما من الشرطة، حتى خلا البيت ثم قيدونا بالحبال أنا وزوجتي الدكتورة ألفت السباعي وابنى والخدم. وضع أحدهما المسدس في رأس زوجتي طالباً منها مفاتيح الخزانة. فأعطتها له. أمر زميله بأن يفك قيودي وأخذ يسألني عن أبحاثي الخاصة بعلاج الإيدز قائلاً إنه يريد الميكروفيلم المسجل عليه هذه الأبحاث. قلت له إنني لا أتركه في البيت ولا في مصر كلها وهذه هي الحقيقة. فقام بتفتيش البيت ولما تأكد من عدم وجوده اعتذر قائلاً إنه مكلف من جهة عالمية بهذه المهمة وهددني بأن هذه الجهة ستنتقم مني إن أبلغت الشرطة. بالطبع صدقت كلامه فلم أبلغ الشرطة. حين تأكدت من أنني فى مأمن أبلغت الشرطة لاحقاً». يضيف: «لا أعتقد أنه شخص مجنون بل طبيعي جدا ومتزن ويعي جيدا ما يقول كما أنه مهذب وأنيق وأيضا مثقف ولم يحاول السرقة على الإطلاق بل على العكس أعطى أحد الخدم بقشيشا».فسرت جهات التحقيق محاولة سطوه على فيللا الدكتور شفيق بأنه كان يريد الحصول على دواء معالجة الإيدز الذي قيل حينذاك أن الدكتور شفيق توصل الى اكتشافه على أساس أنه تعرض للاغتصاب في السجن ويظن أنه أصيب بهذا المرض اللعين.في جانب آخر يقول أحد رجال التحقيق إن أحمد كان يعتقد بالفعل أن هذا الاكتشاف يساوي الملايين وأنه كان يريد الحصول على سره ومحاولة التصرف به من خلال بيعه إلى إحدى شركات الأدوية مستغلا إلمامه باللغة الإنكليزية وقدرته على التخاطب مع هذه المستويات. تحدّث أحمد عن خططه ومشاريعه المختلفة والمتناقضة قائلاً إنه كان ينوي السفر إلى إيطاليا أو لبنان واغتيال شخصية سياسية معروفة كما كان يخطط لتفجير سفارة دولة كبرى لكن عملية القبض عليه أوقفت أحلامه الدموية هذه فبات يمضي أيام عمره الأخيرة حالماً بحبل المشنقة فحسب وهو الحلم الوحيد في حياته الذي تحقق.