أدب النكسة مقدمة للانتصار... والإبداع الحالي تعبير عن الانهيار

نشر في 06-06-2007 | 00:00
آخر تحديث 06-06-2007 | 00:00
بعد حرب يونيو (حزيران) 1967 اتجه المبدعون إلى ما سمي بأدب الاحتجاج أو «أدب النكسة» الذي تماهى إلى حد كبير مع تيار العبث واللامعقول الذي ساد الأدب والمسرح الأوروبي عقب الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار.

وبرزت في هذا السياق أعمال أدبية تشير بأصابع الاتهام إلى الفساد الذي تسبب في الهزيمة، مثل رواية «ثرثرة فوق النيل» للكاتب الكبير نجيب محفوظ وجسد خلالها شخصيات غارقة في الملذات والدخان الأزرق، وروايته «ميرامار» التي كانت صرخة احتجاج وتقديمه لـ شخصية الانتهازي «سرحان البحيري» والمهزوم «منصور باهي»،

وظهرت أعمال احتفت بالرموز والإسقاط على الأحداث المعاصرة باستلهام التاريخ بشخوصه وأحداثه مثل رواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني أو الطرح المباشر الصادم كما في رواية «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، و»شيء من الخوف» لثروت أباظة و»حمام الملاطيلي» لإسماعيل ولي الدين.

وعلى جانب آخر ظهرت بعض الأعمال التي رفضت الهزيمة واحتفت بصورة البطل المقاوم كما في رواية «المخدوعون» للفلسطيني غسان كنفاني، و»هموم عربية» للعراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي، ورواية «الرفاعي» وقصص «أرض أرض» و «حكايات الغريب» لجمال الغيطاني التي تجسد شخصية البطل المقاوم وتؤرخ لملامح البطولة وجسارة الإنسان العربي.

يقول الروائي المعروف فؤاد قنديل: تكاد تكون كثير من الكتابات إشارات إلى أصداء نكسة 1967وانعكاساتها من خلال الأعمال الروائية والشعرية والقصصية، وإن تباينت قليلاً بعض وجهات النظر بشأن ما حدث خاصة لغياب المعلومات الكافية من خلفيات ما جرى وحتى عن نتائجه أيضاً، لذلك من السهل العثور على أصداء النكسة في أعمال كثير من الكتاب المصريين بالذات وبعض الكتاب العرب في فلسطين وسورية.

وتكاد تكون النكسة سبباً في أن يكتب قنديل عمله الروائي الأول «أشجان» عامي 1968 و 1969 حيث يقول: تتناول الرواية حياة أشجان الشخصية البسيطة الباحثة عن الخلاص وحبها لـ «جابر» وبعد تعقد الأمور تكتشف اختفاء جابر وأثناء حدوث النكسة تطرأ على حياتها وحياة أهلها ومجتمعها في مدينة السويس متغيرات كثيرة، منها إرغام الحكومة لهم على هجرة المدينة، وتظل تبحث عن جابر لأنه يمثل لها المنقذ وهو الذي بحكم اسمه سوف يجبر كسرها النفسي والبدني والإنساني، وبعد ذلك تكتشف أنه انضم إلى قوات فدائيي سيناء من أجل محاولة تصحيح الأوضاع ومقاومة المحتل.

أيضاً في رواية «موسم العنف الجميل» التي صدرت عام 1986 عن حرب أكتوبر ـ والحديث لايزال لقنديل ـ كانت بدايتها تعليقاًُ على ما حدث في 1967 بما يوضح حجم المأساة والرعونة التي تكشف عن سوس كان ينخر في القيادة السياسية والعسكرية تحديداً.

 

إبداع بلا معلومات!

 

ويضيف قنديل: معظم ما كتب تعبير عن أصداء أو تأثير النكسة على الجماهير من الناحية النفسية وعلى أبطال الأعمال الأدبية، كما أنها تجلت أيضاً في كتابات نجيب محفوظ وفؤاد حجازي وغيرهما، وأود هنا الإشارة إلى أن بعض المبدعين لم يرصدوا التفاصيل الخاصة بالنكسة وملابساتها في أعمالهم، بل تجنبوا المعلوماتية في الرصد، فالتفاصيل لم تكن متوافرة لا قبل ولا بعد، وهذا ينقلنا إلى غياب العنصر المعرفي في النص الروائي العربي الذي يميل إلى الإنشائية بدرجة أكبر، على خلاف الأدب الغربي، فهيمنجواي في «لن تدق الأجراس» تجد الحرب لديه مرصودة بالتفاصيل الدقيقة وهذا لا يحدث لدى الكاتب العربي وكذلك «الحرب والسلام» لتولستوي، هناك معايشة بدرجة أكبر، لكن عندنا ننقل أفكاراً وأصداء نفسية، وليس هناك أي توثيق يجعلنا نعيش ونتخيل الموقف، وقد حاولت ألا اتهم بذلك في «موسم العنف» فقد كانت هناك العديد من التفاصيل التي جمعتها من العديد من المصادر.

 

الهزيمة النفسية

 

ومن جانبه يقول الناقد الأدبي د. حامد أبو أحمد عميد كلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر، صورة البطل المهزوم في الأدب عادة ليست مرتبطة بالهزيمة في معركة أو النصر فيها، وإنما هى مرتبطة أكثر بالحالة النفسية، فيمكن أن تحدث هزيمة لكن البطل لا ينكسر ولا يحس أنه انهزم، وإنما يعتبر ذلك مجرد كبوة يمكن أن يقوم منها، وأعتقد أن تلك كانت هي الحالة بعد 1967، ونحن لم نحس بالهزيمة، لم يكن هناك إحساس عام بها، لأنه أتت بعدها حرب الاستنزاف التي كانت بداية استعادة الجندي المصري لشرفه وحققنا جزءاً من الانتصارات العسكرية، ثم جاءت حرب 1973 وحصل شبه انتقام أو تقويض لهذه الهزيمة، وبالتالي المسألة في النهاية مرتبطة بالحالة النفسية وبالإصرار والعزم والرغبة في الخروج من الهزيمة إلى الانتصار، لذلك تجد الأعمال التي تناولت النكسة، ثم النصر تدور حول عدم قبول الهزيمة، مثال ذلك ما كتبه إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ويوسف القعيد، وعدد كبير من الأدباء.

ويضيف أبو أحمد: أكبر دليل على صحة رؤيتي هذه أن الهيئة المصرية العامة للكتاب أعلنت في إحدى السنوات مسابقة في «أدب الحرب» تقدم لها عدد كبير من الكتاب وقد لوحظ أن كل هذه الأعمال غلبت عليها الرغبة في الخروج من الهزيمة.

ويوضح أبو أحمد أن الإنسان العربي الآن منكسر أكثر نتيجة ما يحدث في العراق والصومال وفلسطين ولبنان علاوة على الإرهاب المنتشر في كل مكان، لذا أرى أن هناك انكساراً في النفس العربية الآن وهذا أثره أكبر من الهزيمة العسكرية نتيجة عدم القدرة على حل الأوضاع العربية والطمع الإمبريالي في العالم العربي، فالجو الإحباطي السائد الآن كان سبباً في انسحاق الإنسان العربي حتى أن الهجرة أصبحت هى الحلم لكل الشباب العربي الآن إلى جانب انتشار البطالة وتدهور مستوى التعليم والانهيار الاقتصادي.

 

أمل التجاوز

 

ويؤكد أبو أحمد على كلامه هذا بقوله: ألاحظ فيما كتب بعد النكسة وبعد انتصار 1973 أن هناك أملاً في تجاوز الهزيمة، لكن الآن ما يكتب (بعد سنة 2000) هو حالة إحباط شديدة مثال ذلك رواية «تحت خط الفقر» لإدريس علي، و «الشيء الآخر» لسعيد سالم، والجيل الأخير تحديداً واضح فيه هذا الأحباط والجانب المظلم، حتى عند علاء الأسواني في روايته «عمارة يعقوبيان» و «شيكاغو» تبدو الظلال الرمادية مخيمة عليهما.

 

نبوءة النكسة!

 

وبرؤية مختلفة تشير إلى تنبؤ الأدب المصري بحدوث النكسة يقول القاص سعيد الكفراوي: هزيمة يونيو (حزيران) 1967، لم تكن «سبب» لكنها كانت «نتيجة» لممارسة نظام ظل على مدى سنوات طويلة يستبدل نفسه بالناس وبالتاريخ وبوقائع الحياة الإنسانية عامة، وأيضاً تلك الهزيمة لم تكن مفاجأة ولكن الأدب وبالذات الأدب المصري قد تنبأ بها، فنحن عندما نراجع «الشحاذ» و «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ نستشف أصداءً لكارثة سوف تحدث، وإذا تأملنا الواقع السياسي وفترة الاعتقالات في الستينيات لكل فصائل المعارضة، شيوعية، وإخوانية، وليبرالية، كل هذه كانت إشارات أن ثمة قيامة ستقوم.

 

البطل المقاوم

 

ويضيف الكفراوي: نأتي إلى جيل الستينيات، فنجد صنع الله إبراهيم قد تنبأ بهذه الهزيمة في «تلك الرائحة» وأمل دنقل في «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» ومحمد عفيفي مطر في «النهر يلبس الأقنعة»، وأنا كتبت العديد من القصص تعبيراً عن نبوءة سوف تحدث، وكتب محفوظ ويوسف إدريس منهبين الوعي العام أن ثمة خطراً سيحدث وقد حدث، جاء كاسحاً وكاشفاً وطرح العديد من الأسئلة حول الماضي والحاضر والمستقبل ونبه الناس أن ما جرى عبر السنوات الماضية ما كان إلا صوت السلطة المتمثلة في القمع والدولة البوليسية وغياب المجتمع المدني واستبدال الرئيس نفسه بالأمة، وكان علينا كمبدعين أن نواجه ما اصاب ضمير الأمة بفعل إبداعي، يدافع عن حقيقة ما جرى فكانت مجلة «جاليري 68» وكانت جريدة المساء وتشكل في تلك الحقبة وعي جيل الستينيات الذي جاء ليواجه نتائج هزيمة 1967، لم يكن نموذج البطل مهزوماً ولكنه كان بطلاً مقاوماً.

وهكذا ـ بحسب الكفراوي ـ استطاع المبدعون أن يجسدوا هذا المعنى (المقاوم) وليس (الانهزامي)، وهو ما يبدو في روايات صنع الله إبراهيم في الكشف عن الخراب العظيم، وما قدمه إبراهيم أصلان في «مالك الحزين» ويحيى الطاهر عبدالله في «الطوق والاسورة»، جميعها كانت كتابات معنية بقضايا الوطن وتجديد اللغة والخروج من أسر النص القديم الثابت أي نص جديد مغاير مستنداً من الكتابات الراقية التي كانت تكتب في العالم عند كافكا وهيمنجواي وفوكلر والكتاب الروس مثل تشيكوف وديستوفيسكي وبوجول.

 

انكسار بطل السبعينيات

 

وإذا كانت تلك هي الكتابة الستينية، فإن الوضع اختلف مع جيل السبعينيات حيث يقول الكفراوي: ظلت الكتابة هكذا إلى أن جاءت الهزيمة الثانية في السبعينيات مع الانفتاح الاقتصادي أمام هجرة المصريين وسيطرة الانفتاحيين وصعود صوت الإسلام السياسي وانهيار سلم القيم والتطبيع مع العدو، هنا في الحقيقة ظهر البطل المنكسر الذي يواجه متغيرات لا حد لقسوتها، عند المنسي قنديل في «انكسار الروح» وعند إبراهيم عبدالمجيد في «ليلة العشق والدم» وسلوى بكر «العربة الذهبية تصعد إلى السماء»، واعتقد أن الكتابة المصرية ماتزال أقدر الصيغ للتعبير عن الواقع وعبر مجايليها من كتاب كثيرين قادرين على التعبير عن تلك المتغيرات لتؤكد في النهاية أن الكتابة المصرية الجيدة منذ الهزيمة وحتى الآن لم تكن كتابة انكسار لكنها كانت كتابة مقاومة.

 

هزيمة العصر الحديث

 

وبنظرة ربما هي الأكثر عمقاً يرى الناقد الأدبي د. عبدالحميد إبراهيم أن صورة المهزوم في العالم العربي لا تقتصر على الأدب وحده، فيقول: الهزيمة هي الخط الأسود السائد في التاريخ العربي منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1789 وحتى اليوم عام 2007، فوجود المستعمر ووجود الثقافة الأوروبية ونبرة الحروب الصليبية بصورة جديدة أثرت في تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث وطبعته بطابع الهزيمة، فأكاد أقول إن الهزيمة تلقى بشبحها الأسود على كل مظاهر الحياة العربية في العصر الحديث.

ويضرب د. عبدالحميد أمثلة على ذلك بقوله: الأغنيات لا تقدم الفتى العربي بصورة قوية، وإنما تقدمه بصورة متخاذلة تنزل دموعه أمام الحبيبة، ويجعلها رمزاً للنصر ويتمسك بها كتمسك الطفل بأمه أو يبكي وينوح ويستعطف ويقول كما قال عبدالعزيز محمود «يا شبشب الهوى .. يا شبشب الهنا .. يا ريتني كنت أنا»

ويضيف: إن صورة الهزيمة موجودة في التاريخ العربي الحديث ولها مظاهرها في الأغنيات وفي الشعر بل وفي الحياة الاجتماعية والسلوكية الحديثة، وإذا اقتربت من الرواية بصفتها تمثل التخصص الرئيسي عندي، فإنني أجد صورة البطل المنهزم واضحة في الرواية منذ عصر الرواد حتى اليوم، فإذا اقتربنا من عصر الرواد وأخذنا محمود طاهر لاشين نموذجاً في روايته «حواء بلا آدم» فإننا نجد البطلة منكسرة أمام التناقض الطبقي في عصرها بين الأغنياء والفقراء وانتهت الرواية بانتحار البطلة بها، وهذا الحفل هو يوم زفافه إلى قريبته من الأغنياء.

 

أخطبوط الإحباط

 

ويشير د. عبدالحميد إلى تزايد صورة الهزيمة في فترة الستينيات وعقب النكسة بنوع خاص، فالنكسة هزت كيان المجتمع العربي، وجعلته يفيق على البناء السياسي المتخاذل، وبدلاً من أن يتبنى المبدع العربي بطلاً قوياً يحاول أن يبني من الأنقاض بيتاً جديداً قوياً تراه يقع في شراك الهزيمة وفي أخطبوط الإحباط، ويتبنى أدب العبث الذي يتباكى فيه ويتخاذل ويجتر آلامه ويمضغ أحزانه، والأمثلة على ذلك كثيرة نراها بنوع خاص عند تيار الشعور الذي انتشر بعد ظاهرة النكسة وبعدها وفي فترة السبعينيات، فقد صار البطل في الرواية العربية الحديثة على قصص العبث وتيار الشعور، وأصبح يجابه الأحداث ويخرج لها لسانه ويسب ويشتم، وقد تم كل ذلك بطريقة تشنجية عصبية ولكن على أي حال فإن هذا يمثل بداية الطريق الصحيح الذي يجب أن يستمر حتى نزيح صورة المهزوم ونتغلب على آثار النكسة ونقوض كل مصدر من مصادر الهزيمة سواء كان هذا المصدر من الخارج أو من الداخل.

back to top