بعد عامين على استشهاده... ماذا تحقّق؟ ماذا تغيّر؟ سهام تويني:جبران أحبّ لبنان حتى الموت!

نشر في 09-12-2007 | 00:00
آخر تحديث 09-12-2007 | 00:00
عيناها تلمعان وصوتها يتهدج ومشاعرها تنساب حين تتفوه باسمه. سهام جبران تويني تقطر حزنا وتخفي خلف ابتسامتها المرسومة قلقا كبيرا... انها السنة الثانية لها من دون جبران، وهي السنة الثانية لطفلتيها التوأم ناديا وغبرييلا من دون «دادي»، وهو عمر جديد تحياه مختلف تماما عن عمر سبق!
في الذكرى الثانية لاستشهاد أحد أبطال ثورة الأرز في لبنان جبران غسان تويني تحدثت سهام تويني عن جبران الزوج والحبيب والأب والغائب- الحاضر:

تفلفش بين الصّور التي تجمعهما وتشرح: «هنا طلب يدي. وقف خلف المذياع وطلب يدي. وهذا هو أول مشوار لنا معاً. وهذه في شهر العسل في براغ. وهنا نركب الخيل. وهذه الصورة أحبها وتلك هو يحبها. وهذه الصورة هي الوحيدة التي جمعتنا نحن الأربعة معاً: جبران وأنا وناديا وغبرييلا...» في كل صورة حكاية ومع كل حكاية غصة.

تشبك سهام كفيها ببعضهما وتنظر في الأفق وتتمتم: «مرت سنتان على رحيله. يا الله أشعر كأنهما دهر! المسؤولية التي ألقيت على كاهلي كبيرة. بالأمس جلست وفكرت كثيرا به وبنا ورددت في قرارة نفسي: «أوف» كم أشعر أن الوقت طويل طويل. كم أشعر به اليوم وكل يوم وكم تكبر حاجتي اليه. ليس سهلاً أن يمضي الإنسان عمره وحده، وخصوصاً بعد شخص مثل جبران، كان يملأ حياتي ولا يجعلني أحمل همّ أيّ شيء. كان الزوج والصديق والأب. نظّم حياتي. كنت أعيش بعفوية أكثر. تزوجت صغيرة وطلقت وعاش طفلي شريف مع والده. لم أتحمل المسؤولية يوماً قبل رحيل جبران. وحين غادر ترك في حياتي فراغاً كبيراً ومسؤولية كبيرة».

حمل كبير

بعد جبران صار حمل سهام كبيراً «عليّ تنظيم البيت وحدي والاهتمام بالأولاد، بابني شريف (18 سنة) وبالطفلتين ناديا وغبرييلا (28 شهرا). كانتا صغيرتين جدا يوم مات. وكانت فرحته بهما لا توصف لكنه لم يرهما كثيراً. كان مسافراً أو منهمكاً بإتمام حلمه بالحرية والسيادة. أفكر أحياناً لو كانتا أكبر قليلاً وتفاعلتا معه كما تتفاعلان معنا اليوم (تتنهد) ربما كان انتبه الى نفسه أكثر!».

جبران كان يشعر بالموت قريباً منه وكم من مرة قال لسهام: «سأموت، أشعر أنني لن أبقى حياً، لكنني سأكون دائماً قريباً منكنّ، الى جانبكنّ» تضيف: «أحيانا، حين أكون مخنوقة ومتوترة، أتكلم معه وأطلب منه أن يساعدني» وأقول له: أرجوك ساندني. أخرج أحيانا مع أصدقائي في سعي مني لتبديد القلق الذي ينتابني، وخوفاً من أن أسقط في الاكتئاب... لكنني أصطدم غالباً بتعليقات الناس. إنهم يكبلونني. الناس يظلمون بعضهم. وإذا شاهدوني أبتسم يقولون: زوجها استشهد وهي تبتسم! انهم يراقبون الصورة ويتجاهلون المضمون ويحكمون ظاهرياً على الأشخاص».

رحيل جبران تويني ترك فراغاً كبيراً في عائلته وخصوصاً زوجته وفي السياسة اللبنانية الحديثة التي انطلقت فيها ثورة الأرز ولاحت الأحلام الاستقلالية في مخيلات الكثيرين. جبران كان يحلم، وعاش، قبيل وفاته، أجمل أيام عمره وهو يشاهد أحلامه تتحقق. طالما ردد أمام أصدقائه وتمتم في أذن سهام: «لم أكن أتوقع أن يتحقق حلمي وأرى القوات السورية تخرج من لبنان». كان حلماً رائعاً تحقق في حياته. عاش اللحظة الجميلة ولم ينتبه الى نفسه. «ما عاد يتهدى» مثل طير يحلق عالياً. ويوم مات كان ما يزال يحلم وهذا ما يمدني ربما بالصبر على رحيله. فلو كان حياً الآن ورأى التطورات ومسار الأمور والمنحى الذي اتخذته لكان مات ألف مرة».

ذهب مجاناً

ماذا تقصد سهام تويني بهذا الكلام؟ هل تعتبر أن رحيل زوجها كان مجانيا؟ وهل تلاشت أحلام جبران في سياسات هذا الزمان؟ تجيب بسرعة «طبعا. أعتقد أن جبران ذهب مجانا. كان يظن أن موته قد يغيّر ويسرّع في مسار الأمور. أعتقد أن نبأ استشهاده قد يجعل المجتمع الدولي يأخذ قرارات سريعة تعيد الى لبنان استقلاله الناجز وحريته التامة وسيادته غير المنقوصة. أخطأ. لم تكن لديه أي مشكلة في ان يستشهد من أجل لبنان. كان هذا خياره. أحب لبنان حتى الاستشهاد. وكم قلت له أنت تنشط من أجل لبنان وأنا أريدك معي. أنت زوجي ووالد بناتي. لم أستطع أن أفكر به إلا كزوج وشعرت بالقهر، كزوجة أولا، لرحيله. ناهيك أنني قبل استشهاده كنت أشعر أن آفاق أحلامه مقفلة ولن توصل الى مكان. راقبناهم يفجرون ويغتالون ويعرقلون... كنت واقعية أكثر منه. كنت أراقب البلد المقسوم الى فريقين، وكيف ينظر الفريق الثاني، فريق الثامن من آذار، الى فريق الرابع عشر من آذار وكأنهم عملاء وليسوا لبنانيين أحبوا لبنان حتى الاستشهاد. كنت أقول له: هل سيتمكن الناس من تحمل المرحلة؟ هل سيصمدون؟ وكان يجيبني بثبات: يحتاج إنجاز الاستقلال الى سنة أو سنتين».

إذا كنا نعرف كيف «تمشي» السياسة اللبنانية من دون جبران وما آلت اليه ثورة الأرز، فماذا عن عائلة الشهيد؟ كيف تحيا من دونه؟ وماذا عن ناديا وغبرييلا؟ تجيب سهام بابتسامة حزينة «كان جبران يخشى أن يمسك الطفلتين بين يديه ويشدهما الى صدره. كان ينتظر أن يكبرا قليلا ليحضنهما ويلعب معهما. وأصررت عليه مرة أن يعدّ لهما رضّاعة الحليب. كانت المرة الأولى والأخيرة التي يطعمهما فيها. ناديا تشبهه شكلاً ومضموناً كثيراً. وهي تصرخ حين ترى صورته: دادي. دادي...» تضيف «ضممت لهما، في ذكرى عمادتهما، صوره في الفيلم مع أغنية المطربة ماجدة الرومي: عم بحلمك يا حلم يا لبنان. ناديا تحب مشاهدة الفيلم كثيراً وتطلب الأغنية دائما في السيارة، وتحب أيضا أغنية: يا ست الدنيا يا بيروت. وأسرع أغنية حفظتها في الحضانة كانت النشيد الوطني اللبناني: كلنا للوطن للعلى للعلم. إنها نسخة طبق الأصل عن جبران. وناديا شديدة التعلق بشقيقتيها الكبيرتين نايلة وميشال وبجدها غسان، وتقول لي دائما بالانكليزية: اريد أن أذهب الى بيت جدو. وعمو غسان يعشق الفتاتين ويقول لي دائما: هما النور الأقوى في حياتي».

شبه

غبرييلا تشبه والدتها أكثر. شقراء، فوضوية، لكنها حنونة. أما ناديا فسمراء ونظامية وقلبها طيب جدا. هي جبران الصغيرة.

في الثاني عشر من كانون الأول، قرابة الساعة التاسعة صباحا، تحلّ الذكرى الثانية لاستشهاد جبران غسان تويني. صدى الانفجار لا يزال يدويّ في آذان كثير من اللبنانيين، ومشاهد الدمار والأشلاء البشرية المترامية في أحراج المكلس حاضرة بقوة في ذاكرة اللبنانيين... ماذا عن سهام تويني؟ أين ستكون في هذه اللحظة؟ تجيب «جبران سيكون هو، كما وعدنا، معنا. وهذه اللحظة أعيشها كل لحظة، حين أبتسم، حين أحزن، حين أضم ابنتي الى صدري، حين أعمل، حين أسافر» وتستطرد «في الخامس عشر من ايلول، في ذكرى عيد ميلاد جبران، قطعنا له قالب حلوى على صدى القسم الذي أطلقه. فرطت يومها مجددا في البكاء كما في أول لحظة. وفي كل مرة أسمعه يردد هذا القسم: نقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيين... أشعر به حاضراً معنا، بيننا. أحب جبران هذا القسم وآمن به وعمل من أجله ومات ربما لأنه آمن بوحدة اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين».

back to top