رسائل على حافة الهاوية

نشر في 10-01-2008
آخر تحديث 10-01-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

«المواجهة البحرية» الأخيرة بين إيران وأميركا تكثّف المعاني الاقتصادية والاستراتيجية العميقة لمضيق هرمز وتطلق في الوقت عينه رسائل إيرانية في أكثر من اتجاه، مثلما تطلق زيارة الرئيس بوش إلى المنطقة رسائل واضحة ومحددة إلى إيران. المشكلة ليست في الرسائل لكنها في الطبيعة الحساسة لمضيق هرمز وأهميته الدولية الفائقة.

حَبَس العالم أنفاسه بعد إعلان واشنطن قيام خمسة زوارق بحرية إيرانية بـ«استفزاز» ثلاث سفن أميركية بالقرب من مضيق هرمز في الخليج، وهو ما كاد أن يؤدي إلى إطلاق النيران عليها. أما إيران فردت بقولها إن هذه المواجهة عند مضيق هرمز هي مواجهة اعتيادية انتهت عندما تعرّف كل طرف على هوية الآخر، مقللة بذلك من خطورتها. وفي ضوء التوتّر الحادث في العلاقات بين البلدين منذ النصف الثاني لولاية بوش الأولى، وعلى خلفية الجولة التي يقوم بها الرئيس الأميركي في المنطقة لخلق اصطفاف إقليمي في مواجهة إيران تكون المواجهة البحرية بين الزوارق الإيرانية والسفن الأميركية أكبر بكثير من مجرّد حادث بحري عارض. تستهدف «المواجهة البحرية» توجيه رسائل إيرانية إلى أطراف عدة: الطرف الأول المستهدف بالرسالة هو واشنطن التي تلقت رسالة مفادها أن إيران تلوح بإحدى أهم أوراقها، أي بالقدرة على اعتراض الملاحة في المضيق وصولاً إلى إعاقة الملاحة فيه، والجهة الثانية المستهدفة بالرسالة هي الدول العربية المعنية بزيارة بوش ومفاد الرسالة أن لإيران قدرات وحضوراً في المنطقة لن يستطيع مثل هذا الاصطفاف تجاهلهما.

يخلق مضيق هرمز، الجسم المائي الأهم في العالم 600 ميل، التباسات استراتيجية بسبب أنه يفصل إيران عن الدول العربية الواقعة في شبه الجزيرة العربية، ويمر منه نحو 40% من النفط الذي يستورده العالم أو ما يساوي 17 مليون برميل يومياً. ومن المؤكد أن تتزايد أهمية مضيق هرمز الاستراتيجية في الأعوام المقبلة مع تزايد حجم الإنتاج النفطي الخليجي الذي سيبلغ 28.3 مليون برميل يومياً بحلول العام 2010، و31.1 مليون برميل يومياً بحلول العام 2020. وإذ يضيق الخليج عند مضيق هرمز ليصبح عرضه 34 ميلاً فقط، تتألّف الممرات الرئيسة للمضيق من ممرين: أحدهما لدخول السفن إلى الخليج، والآخر لخروجها منه وقناة فاصلة بين الممرين وبعرض ميلين فقط لا غير لكل من هذه القنوات. ولذلك فإغراق سفينتين من الحجم المتوسط في أي من هذه الممرات الضيقة بالمضيق يعني إعاقة الملاحة في الخليج أسبوعين، وهو ما يمنع تدفّق النفط إلى الأسواق الخارجية ويدفع بأسعاره إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ سوق النفط العالمي.

دأبت كل من واشنطن وطهران على القيام بمناورات بحرية في الخليج في السنتين الماضيتين، واشنطن قامت بمناورات بحرية قبل شهور في إطار ما تسميه إدارة الرئيس بوش «المبادرة الأمنية لمنع الانتشار النووي». وبالمقابل دشنت إيران مناوراتها في الخليج التي أطلقت عليها اسم «الرسول الأعظم 2»، وقبلها بعام قامت بمناورتين ضخمتين هما مناورة «الرسول الأعظم» ومناورة «ذو الفقار»، لمحاولة ردع واشنطن الموجودة عسكرياً بكثافة في الخليج عن مهاجمتها؛ وفي الوقت عينه تثبيت نفسها القوة الإقليمية الأولى في المنطقة. ويقضي منطق المناورات بأنها وسيلة ممتازة بيد الدول التي تقوم بها من أجل ردع الخصوم، وترسيخ تحالفات سياسية وإقليمية مواتية لتلك الدول وصولاً إلى الحفاظ على توازنات قائمة بالفعل أو فرض توازنات جديدة مرغوب بها.

تدعو التجارب التاريخية الأميركية مع هكذا مواجهات إلى القلق بالفعل، ففي مطلع أغسطس عام 1964 أعطى الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون أوامره بالرد على الزوارق الفيتنامية الشمالية المجهزة بالأسلحة النارية والموجودة في خليج تونكين، بعد أن «شنت هذه الزوارق المعادية هجوماً على الفرقاطات الأميركية التي أبحرت في مهمات روتينية في خليج تونكين» كما قالت الرواية الرسمية الأميركية وقتذاك. وفي الرابع من أغسطس 1964 أطل جونسون على المواطنين الأميركيين عبر التلفزيون معلناً شن الحرب على فيتنام الشمالية رداً على هجومها المزعوم على القطع البحرية الأميركية، التي يقول عنها مؤرخون عسكريون أميركيون، إنها لم تحدث أبداً. وطبقاً للوائح العسكرية الأميركية يحق لقائد الفرقاطات الأميركية استخدام كل الوسائل المتاحة لديه، وأن يتخذ كل الإجراءات الضرورية لحماية الأسطول ضد الأعمال العدائية أو حتى نية القيام بأعمال عدائية. وإذا عدنا إلى المواجهة الأميركية-الإيرانية الأخيرة وافترضنا أن قائد الفرقاطات الأميركية قرر أن هذه الزوارق تشكل عملاً عدائياً وقام بإغراقها؛ ثم أبلغ قيادته العسكرية، التي أبلغت بدورها القيادة العسكرية العليا ممثلة بوزير الدفاع ورئيس الجمهورية، فمن يضمن عدم استخدام تلك المواجهة لتبرير حرب أكبر معدة مسبقاً؟.

تكثف «المواجهة البحرية» الأخيرة بين إيران وأميركا المعاني الاقتصادية والاستراتيجية العميقة لمضيق هرمز وتطلق في الوقت عينه رسائل إيرانية في أكثر من اتجاه، مثلما تطلق زيارة الرئيس بوش إلى المنطقة رسائل واضحة ومحددة إلى إيران. المشكلة ليست في الرسائل فهي أمر مشروع في السياسة الدولية، ولكن في صندوق بريد هذه الرسائل، أي في الطبيعة الحساسة لمضيق هرمز وأهميته الدولية الفائقة... إنها رسائل على حافة الهاوية.

* كاتب مصري

back to top