نيرون جديد في تل أبيب

نشر في 06-03-2008 | 00:00
آخر تحديث 06-03-2008 | 00:00
 بدر عبدالملك عاشت الدولة العبرية ستة عقود من قيامها على ذهنية إسبرطة، فبنت دولتها على أساس العسكرة والقوة بحجة وهدف حماية أمنها من المحيط العربي، ولحسن حظها أن البحر كان منفذاً رابعاً وصديقاً جغرافياً لها للتواصل عبر البحر مع العالم الخارجي بالإضافة إلى الفضاء. وكان على صقور الدولة العبرية تحديداً إقناع حمائمها، بأن الأرض والسكان أولا وأخيرا بينما لم ينجح تيار الأرض مقابل السلام. وهناك محطات تاريخية دفع رابين والسادات اللذان لا يرغبان بالتسوية مع التيار الديني المتشدد حياتهما ثمناً لها، فانهار جليد السلام بقوة وعاد الجميع يضغط على الزناد، فتواصل جيل الصقور الجدد في الهجوم على رقع الأرض بالتوسع الاستيطاني على أساس استراتيجي، فالدبابات وحدها لا تنجز التوازن الديمغرافي.

وبإيقاع رقصتين وحركتين مع «الدبابات والقضم» يتم السيطرة على ثلثي أو ثلاثة أرباع التفاحة الفلسطينية ويترك لهم الباقي في إطار من الاتفاقيات المعقدة أمنياً وبشروط تفرز وحدها مشاعر الخوف والقلق وفقدان الثقة، لدى تيارات انبثقت في مرحلة ثانية، جاءت ما بعد منظمة التحرير وانتعشت بعد مرحلة الخروج من بيروت داخل تربتها المحتلة.

لم تحسب إسرائيل بصورة صحيحة كيف سيولد تيار «حماس» في شريط من السهل السيطرة عليه، كونه قفصاً كبيراً بشعب لا يملك ثروة اقتصادية ولا موارد، وليس بحوزته قدرة الهيمنة على المعابر، وأمره لا ينبغي الالتفات إليه، وقد تعمق هذا الشعور للأمن القومي بعد الانتهاء من الاتفاقية المصرية.

إذن العلة تكمن في شمال الدولة فهناك الخطر المحتمل، فمشاغبات شمال غزة لا تتعدى أحجار الصبية الصغار في مواجهة الدبابات، بينما الجنوب اللبناني مشروع مقاومة متزايدة، والجولان بركان صامت لا تعرف إلى أي مدى تقبل سورية بتعهداتها. بدت قاطرة السلام في الشرق الأوسط هادئة ومتعثرة قبل أوسلو وبعدها، ومر على العالم زلزال الانهيار الكبير بغياب أكبر قوة مؤثرة في عملية التوازن في الشرق الأوسط، في وقت كان ينمو تمساح جديد في النهر العالمي، لم تحسب حساباته أيضا إلا مع أحداث سبتمبر، بالرغم من أن مؤشرات الصعود السياسي كانت بارزة في حكومات الإنقاذ، واكتساح صناديق الاقتراع السائدة مع بداية مشروع العولمة.

وأصّل الأميركيون اللعبة بورقتين الأولى مواصلة تفكيك الاتحاد السوفييتي بأشلائه وإرثه وتم توظيف الورقة الإسلامية الثانية في مناطق النفوذ، فما كان على الورقة الثانية إلا ارتداء قناعها، وبعد الانتهاء من الاستقواء كان التناقض ينمو تحت السطح فطلاق الولايات المتحدة مع روسيا الجديدة صار شهر عسل بسبب نمو عدو مشترك هو الإرهاب في الشيشان وآسيا الوسطى والبلقان، بينما واصلت الطائرات الأميركية تدك صربيا وتنسج كيفما ترغب في فسيفساء البلقان.

وفي الأجندة كانت أوروبا أهم بكثير من ترتيب وضع الشرق الأوسط. وكان على كارثة البرجين في نيويورك الالتفات لتزايد بؤر الإرهاب، وتعيد تنشيط فكرة مشروع الشرق الأوسط مع حلفائها في المنطقة. كانت المياه الراكدة قد اتسعت وتحولت إلى تيارات ضاغطة ومخيفة، تستوعب إسرائيل أبعادها في المنطقة أكثر من غيرها، فوجدت في العراق وإيران مصدرين متزايدين عسكريا يوما بعد يوم يهدد أمنها وقوتها وقدراتها في الردع، فقد وجدت أنها تغذي أذرعاً عسكرية، في وقت بدت نفوذ تلك الأذرع تزداد سياسيا وجماهيريا في الداخل. وبذلك ينبغي إشعال المنطقة خطوة خطوة حتى تنهار تلك المخاوف وتُزال من ناظر حكومة إسبرطة العبرية. فكيف تقبل بكل سهولة تحول أحجار الثمانينيات إلى صواريخ بلغت حدودها وتجاوزت مستوطناتها، بل صار اكتشاف المزيد من الأنفاق ونوعية الصواريخ المطورة مصادرها تميل إلى «حزب الله» خاصة مع اكتشاف الكاتيوشا.

التدفق الهائل من غزة إلى مصر من دون شك ترك الفخ الأمني يتابع خيوطه فعُرفت أنفاق خمسة، وتقارير أمنية لمست حقائقها لنوعية الصواريخ التي وصل مداها إلى عسقلان، وبذلك تقترب المسافة إلى تل أبيب. وتناوب تنسيق الحرق والتدمير العنيف المفرط الذي بلغ الوحشية واقترب من الإبادة، مع إغلاق البحر بالسفن الأميركية، بدلا من السفن الإسرائيلية لأسباب سياسية، وكأنما تدمير الخلفية في الجنوب استعدادا للصيف نحو الشمال، فإسرائيل لن تهدأ عسكريا وأمنيا ونفسيا إلا باستعادة هيبتها وغطرستها أمام شعبها بتقديم ضمانة لهم، بأن أمنهم منذ ستة عقود محمي ومصان بكل الوسائل حتى من دون السلام، ومن جهة أخرى تؤكد مجدداً للولايات المتحدة أنها بالفعل القوة الوحيدة في الشرق الأوسط، ولن تترك إيران ولا ذراعها في الجنوب اللبناني يهدأ، فالوصول إلى مغنية مجرد رسالة أولية والثانية هي بحرق شمال غزة، وإذا ما ارتفعت عقيرتهم أكثر فإنهم قادرون على حرقها بالكامل من دون أن يرف لهم جفن، فلدى تل أبيب حساباتها الدولية والإقليمية والشوارع الغاضبة لا غير، بل تؤمن أنه بعد كل تدمير عنيف يجلس العرب بخنوع المهزوم، ويقبلون شروط السلام وفق الأجندة الإسرائيلية، بل ينبثق بين المهزومين صراع أشد وأعمق من السابق، المهم أولا حرق الأخضر واليابس في غزة مع الاعتذار لجنبلاط!

* كاتب بحريني

back to top