بين الهلال والصليب
تأليف: مارك كوهينالناشر: منشورات دار الجمل
صدرت حديثا عن دار الجمل الطبعة الأولى من كتاب «بين الهلال والصليب» للكاتب الأميركي مارك كوهين (ترجمة إسلام ديه ومعز خلفاوي)، يتناول وضع اليهود في القرون الوسطى. يقدم المفكر السوري صادق جلال العظم لهذا الكتاب فينطلق من الحكمة المأسوية الشائعة والقائلة إن أول الضحايا في الصدامات العنيفة الكبرى وأول الإصابات في الحروب الطاحنة المديدة هي الحقيقة. لا يقصد العظم هنا «الحقيقة» بأي من معانيها الأكثر تواضعاً، أي بمعانيها النسبية والدنيوية والتجريبية والتقريبية والترجيحية فحسب، لذا لا يريد أن يذهب إلى أبعد مما تحمل الحكمة المأسوية من معنى ومغزى ليقول انه في لحظات صعود إرادة القوة وتقدم سيطرتها واحتدام صراعاتها تتحول اعتبارات الحياة الأخرى كلها – مثل القيم والأخلاق والصدق والإخلاص والتجرد والإنصاف والعدل – إلى مجرّد أدوات مشوّهة لا عمل لها سوى الخدعة المصلحية الآنية لهذه الإرادة العتيدة في الحاضر القائم أولاً وفي الإسقاطات المطلوبة لحظياً على الماضي ثانياً وفي التصويرات اللازمة حالياً لشكل المستقبل المرتقب ثالثاً. لهذا السبب تحتاج الحياة، كما يرى المقدم، إلى العالم والمؤرخ والمجتهد والباحث والمحقق والمدقق. كذلك تحتاج إلى مجموعة من القيم المرافقة مثل التجرد والموضوعية والتأمل والجرأة والنقد لقول الحقيقة ولتعديل الموازين لصالحها بشكل أو بآخر. حقائقيعتبر صادق العظم أن كتاب مارك كوهين ينتمي إلى نوع من الدراسات التي تريد تعديل موازين إرادات القوة وما صنعت من تواريخ وحقائق ووقائع وما اجترت من إسقاطات ملائمة على الماضي والحاضر والمستقبل، لصالح الحقيقة التاريخية مهما كانت تقريبية، لأنه يعرف أنها كانت اولى ضحايا الصراع العربي - الصهيوني ولا تزال. يرى العظم أن مارك كوهن قدّم في دراسته هذه، المقارنة بين وضع اليهود في ظل الحكمين الإسلامي والمسيحي، عملية ضبط دقيقة ومدروسة للعلاقة بين اللحظات السياسية المتفجرة والفاعلة في صيرورة الصراع العربي-الصهيوني من جهة وبين آليات إنتاج المعرفة والثقافة والفكر والنقد، من جهة ثانية، بحيث لا يُسمح للحظة السياسية الحاضرة وإرادات القوة الكامنة فيها التضحية باستقلالية العمل الفكري ونزاهة البحث التاريخي وتجرد الإنتاج المعرفي وموضوعية التعبير عن ذلك كله، وفقاً لتقديراته النقدية واجتهاداته العلمية. يضيف العظم أن ليس من المهم أن يعلن الكتاب أنه أمسك بالحقيقة عن يهود العصور الوسطى في ظل الهلال والصليب بل المهم هو الاستمرار في طرح الاسئلة الخارجية وفتح الآفاق لمزيد من البحث والنقد والتنقيب والنقاش وصولاً إلى تعديل أفضل لموازين إرادة القوة لصالح الحقيقة ولصالح تبديد الإسقاطات والتمويهات والأوهام التي اصطنعتها تلك الإرادة في لحظات توترها وسيادتها، ينطبق هذا الاعتبار بصورة خاصة على تلك العادة السوسيو- أيديولوجية السيئة التي تستسهل تفصيل التصورات والحقائق ثم إعادة تفصيلها مرة بعد مرة بما يتناسب مع المهمة السياسية الراهنة وبما يتلاءم مع توظيفها لغرض مفروض مسبقاً أو معروف سلفاً. الفهم البكائي بدأ مارك كوهين بدراسة تاريخ اليهود في القرون الوسطى قبل حوالى ثلاثين سنة عندما كان الرأي الشائع يذهب إلى أن اليهود «تحت نفوذ الهلال» تمتعوا بالاستقرار والحماية ودرجة عالية من الاندماج السياسي والثقافي أكثر مما حظي به اليهود الذين كانوا «تحت نفوذ الصليب»، هذا كان صحيحاً خصوصاً في ما يتعلق بالاضطهاد الذي لحق باليهود الأشكناز في أوروبا الغربية. يرى كوهين أن في الوقت الذي نجح فيه بارون في تعديل «الفهم البكائي» لحياة اليهود في القرون الوسطى المسيحية، لم تظهر حاجة ماسة إلى إعادة تقييم صورة تاريخ اليهود في ظل الإسلام، على الرغم من أن ذلك كان محل مبالغة من قبل آباء التأريخ اليهودي الحديث في أوروبا الوسطى، فصيغ بشكل «أسطورة تعايش ديني مثالي». الاندلسشهدت العقود الأخيرة جهوداً لتغيير هذه الصورة، في نهاية الستينات بعد حرب الأيام الستة 1967، أثرت عوامل منبثقة عن الصراع العربي- الإسرائيلي في بعض الجهات متسببة في ولادة مراجعة جذرية للتاريخ اليهودي-العربي. ظهرت نواة هذه الفكرة الجديدة أساساً في أعمال كتّاب غير متخصصين نشروا مقالاتهم في مجلات يهودية شعبية، ثم أخذت تظهر لاحقاً بشكل لافت في البحوث الأكاديمية. وفقاً لهذه النظرة كان «العصر الذهبي» في الحقيقة فترة كراهية وإذلال، حتى في الفترة التي تمكن فيها بعض عظماء اليهود من تشريف بلاطات الحكم الإسلامي في الأندلس حيث اعتُبروا جزءاً من الحياة الثقافية والسياسية العربية، غدت هذه القرون ذاتها اليوم موصوفة بالعنصرية والاضطهاد، اختار مارك كوهين تسمية هذه النظرة بـ «الفهم البكائي الجديد للتاريخ العربي اليهودي». يسعى كوهين في كتابه إلى تقديم دراسة أوسع لعلاقة اليهود بالمسلمين والمسيحيين في القرون الوسطى. يطرح أسئلة جديدة في سياق مقارن، محاولاً الإجابة عنها بطريقة تُلقي الضوء بشكل متبادل على علاقة اليهود مع غيرهم من الأمم غير اليهودية في الإطارين الوسيطين الإسلامي والمسيحي. ينوه الكاتب بأن دراسته هذه ليست دراسة مقارنة في موضوع التسامح، فلا الإسلام ولا المسيحية اعتبرا التسامح فضيلة قبل العصر الحديث، يؤكد في هذا المجال أن الأديان التوحيدية إذا حكمت ترى من اللائق اضطهاد الأديان التي لا توافقها.مساواةأما في الإسلام، فيؤكد أن اليهود والمسيحيين رغم تلقيهم الحماية كذميين، اعتبروا كفاراً وعانوا من المعاملة القاسية من قبل المجموعة المتغلبة. على المستوى الاقتصادي تمتع اليهود الذين يقيمون في البلاد الإسلامية بنوع من المساواة بنظرائهم المنتمين إلى أمة الإسلام، نادراً ما أعاقهم، كونهم يهوداً، عن الانخراط في العمل في السوق الإسلامي سواء على المستوى المحلي أو العالمي، فلا منزلة التاجر ولا الأنشطة الاقتراضية اليهودية حملت التداعيات الإشكالية التي طغت على العلاقات اليهودية- المسيحية في الغرب. من هنا حاول الكاتب أن يبرز بوضوح وضعية اليهودي ككافر في العالم المسيحي الغربي التي كانت أقل التباساً ووجوده أكثر عرضة للخطر مما كان عليه وضع اليهود في الإسلام، فقد ضاعف النشاط اليهودي في المجال الاقتصادي في الغرب اللاتيني خصوصاً في القرون الوسطى، الشعور المسيحي الدفين بمعاداة اليهود وتضاعفت الحواجز أمام التفاعل الاجتماعي فأصبح إمكان تجاوزها قليلاً.