لو كنت ناخباً تركيّاً...
يبدو أن استقرار وتطور الدولة التركية من مصلحة العرب والجوار، لأنها بذلك تصبح عتلة للتقدم من جهة، وأداة مساعدة لنا في مواجهة أنفسنا، ومواجهة الأخطار الخارجية من جهة أخرى.... وبالطبع لا أستطيع أن أكون، ليس لأنني لست تركيّاً فقط، بل لأنني لست ناخباً، ولا أعرف كيف أنتخب، إلاّ من خلال القراءة والاستماع والمشاهدة، ولكن الافتراض مثير للفكر واللواعج.كان يُمكن أن أنتخب الأكراد مثلاً، دعماً لحقوقهم حين تكون سلمية، ويسلّمون بأن الديموقراطية طريق وحيدة لهذه الحقوق. وكان يُمكن أن أساير هواي العتيق فأنتخب غلاة العلمانية، ولا أبالي بالبرامج المطروحة على السطح، القوميّةً خصوصاً. ولكن الجواب الذي استدعى السؤال هو: هل كنت سأنتخب حزب «العدالة والتنمية»؟ وأخالف بذلك ما أخشاه من غلبة التيار الإسلامي الذي قد يتحيّن الفرصة ليقفز إلى التشدّد والتزمّت والتطرّف، وينفرد بالسلطة تدريجياً، ليتحول إلى سلطة شمولية، ويُغلق من ثمَّ على الناس أبواب التقدم؟!تركيا عقدة لنا نحن العرب، منذ كنا معاً، وتركونا قبل أن نتركهم. فلا ندري إن كان خصامنا معهم لأنهم استغنوا عنا في أوائل القرن العشرين فهم سبب ضعفنا، أم لأنهم سادوا علينا أربعة قرون فهم سبب تأخرنا. قال لي والدي يوماً إن الناس البسطاء في سورية ظلوا يعتبرون شهداء «السادس من أيار» خونة وجواسيس وعملاء للغرب «الكافر» حتى نهاية الثلاثينيات، ثم نسوا ذلك. وكان الجميع يعرفون أن فصيلاً من الجيش التركي يقاتل المحتلين الفرنسيين مع ابراهيم هنانو، ثم نسوا ذلك. وشيء آخر، تركيا عندنا واحدة، مع أن هنالك فرقاً كبيراً بين تلك التي كانت ودالت أيام سطوة السلطان عبد الحميد، والأخرى التي صارت منذ انقلاب الاتحاديين حتى سطوع نجم أتاتورك بجمهوريته الجديدة. وفي العقود الأخيرة من القرن الماضي وحتى الآن، صرنا نرى فيها خطراً داهماً، ينذر بالهيمنة والاجتياح لحساب نفسها وحساب غيرها. ثم تراجعت صورة هذا الخطر رويداً رويداً مع ظهور صورة الخطر القادم من الشرق.لعلّنا الآن نغادر الحالة المشوشة هذه، بعد طول التفاف عليها. يساعد في علاجنا ما تُقدّمه السياسة التركية في العقدين الأخيرين من إسهامات في تظهير نقاشاتنا وتبسيط متاهاتها. فقد كانت الجدالات الدائرة (في مكانها) حول الإسلام والعلمانية أصعب قليلاً لولا المختبر التركي وإنجازاته.من المؤسف أن العلمانية تحولت لدينا أحياناً إلى ايديولوجيا، حين تكون الأخيرة تزييفاً وقسراً وحرفاً للعقول باتجاه مصالح أصحابها، وخصوصاً حين يكون هؤلاء أصحاب سلطة أيضاً. تتحول العلمانية في مثل هذه الحالة، وهي في حقل بناء الدول الحديثة الذي يحتاج إلى الكثير من الهدوء والعقلانية والبحث من طريق التفاوض والتوافق، إلى شعارات حرب، إلا قليلاً.ومن المؤسف أيضاً أن الإسلام شهد في العصر الحديث ميلاً غامراً هنا وهناك إلى التحول نحو مفهوم المؤسسة الدينية، انعكاساً لحالة القهر والإحباط التي أنتجتها القوى المهيمنة في الداخل والخارج، أو تعويضاً عن فشل مشاريع النهوض الأخرى، أو تعبيراً عن تزايد دور الإيرانيين في المشهد العام حيناً وتأثيره الغامر. وفي ظل هذا التحول أصبح الإسلام السياسي أكثر تعارضاً مع مفهوم الدولة المدنية والعلمانية. ومازال لهذه الظاهرة أثر كبير حتى الآن، رغم مظاهر التراجع من التطرف باتجاه الاعتدال، التي تزداد أخيرا، وبشكل متفاوت. حول تركيا، يراهن بعضنا على قيام الجيش بانقلاب، حماية للعلمانية التي كرّس أتاتورك مفهومها الوطني الخاص، ودفعاً لخطر تحويل البلاد إلى النمط الإسلامي تدريجياً. وتتغذى هذه التحليلات، التي تتأثر بالأماني، على وقائع تراجع «الثوريين» سابقاً، والإسلاميين منهم حالياً، عن ديموقراطيتهم ما إن يستبد بهم الأمر، وعلى سلوك «طالبان» و«حماس» وبعض أهل السودان وغيرهم.في هذا، يؤكد سلوك الجيش التركي أنه ضمانة الدولة، وضمانة الدستور، وأن ضغوطه المنطلقة من هاتين المسألتين لن تتعداهما إلى ما يُخالفهما. ورغم خيبة آمالنا سابقاً وفشل توقعاتنا أحياناً، فإن الظروف الدولية الناشئة تساعد على التفاؤل إلى حد كبير، في ألا تبقى علمانية الجيش على حالتها المتوفزة ولا أوضاعها القتالية المغالية، وتقترب أكثر من جوهر المفهوم كحياد للدولة أو سيادة للرأي، أو انها نسقٌ محايث ومتصل بالمدنية والزمنية والدنيوية وما إلى ذلك، مما نألفه ونعرفه.وفي هذا أيضاً، يؤكد حزب «العدالة والتنمية» على تمسكه بعلمانية الدولة. ويدعم هذا التأكيد ما يُلاحظ من بنائه كحزب سياسي، لا منظمة للدعوة الدينية، ولا تجمعاً للهيئات الخيرية، كما تفعل الهيئات السياسية الإسلامية في غير مكان.إضافة إلى ذلك، يبدو أن استقرار وتطور الدولة التركية من مصلحة العرب والجوار، لأنها بذلك تصبح عتلة للتقدم من جهة، وأداة مساعدة لنا في مواجهة أنفسنا، ومواجهة الأخطار الخارجية من جهة أخرى.... ولعل هذا الحديث كله من أثر غلبة الخيبة، فلا ينبغي للمرء أن يناور في ما يخص مبادئه!لذلك، لو كنت تركياً، لدعمت الجيش على ما هو مذكور أعلاه، ولو كنت ناخباً تركياً، لتمتعت أولاً بحريتي في دخول الغرفة السرية التي لم أدخلها في حياتي منذ بلغت سن الرشد، ثمّ انتخبت حزب «العدالة والتنمية»... كاتب سوري