المُقامرة بريع الموقع الجغرافي

نشر في 24-07-2007
آخر تحديث 24-07-2007 | 00:00
 بلال خبيز ذهبت التعليقات التي تناولت خطاب الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الشعب السوري، إلى ملاحظة خلو الخطاب من الإشارات إلى الأزمة المُستعصية مع لبنان والدور السوري في العراق وفلسطين. وبدا هذا التجنب المقصود الذي حرص الرئيس السوري على إبرازه جيداً، بمنزلة إعلان نوايا سورية بالمقايضة بين ملفات النظام الخارجية في دول الجوار وملف المفاوضات مع إسرائيل. خصوصاً أن الرئيس السوري تعمد الإشارة إلى الوسيط النزيه الذي لم يكن غير وزير الخارجية التركي عبدالله غول. هذا التوسط التركي يحمل الكثير من الدلالات على مستوى الاستعدادات السورية للمقايضة في الملفات. فتركيا من جيران سورية الذين تربطهم بها ملفات شائكة، ابتداءً من «لواء الاسكندرونة» الذي ضمته تركيا إلى حدود سيادتها، مروراً بالمشكلة الكردية التي تختلف طريقة التعامل معها في كلا البلدين وسبل الاستفادة منها، وصولاً إلى ملف تركيا الساخن المتعلق بحزب العمال الكردي. فتركيا عانت رعاية سورية لحزب العمال في ثمانينيات القرن الماضي، وانتهت تلك الأزمة بحشد عسكري تركي على الحدود السورية الشمالية وتهديد جدي بالاجتياح ما لم تستجب سورية للمطالب التركية الأمنية والسياسية في ما يتعلق بحزب العمال وزعيمه عبدالله أوجلان.

من نافل القول إن العلاقات بين سورية وتركيا شهدت انفراجات واسعة منذ تلك الأزمة التي سبقت اعتقال اوجلان ومحاكمته، كما ان تقارير متعددة تفيد أن إيران حليف سورية الأوثق منذ عقود، تنسق العمليات مع الجيش التركي ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وهذا ما يجعل التقارب السوري التركي مرجحاً ومفهوماً في جميع الأحوال. لكن التوسط التركي يعني من جهة أخرى أن سورية تستطيع أن تكون صادقة في وعودها إذا ما تمت الاستجابة الى مطالبها على مستوى الجولان المحتل. والشاهد الوثيق على ذلك تركيا نفسها التي تعرضت لنيران الأصابع السورية الطويلة ردحاً.

لا شك أن تحرير الجولان بمفاوضات أو بغيرها، وتخفيف حدة العزلة الدولية التي تعانيها سورية منذ العام 2005، تاريخ اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، قد يحقق لسورية انتصارات تحمي البلد والنظام على المدى المتوسط وربما الطويل. ومثل هذا الثمن الذي تطالب به سورية قد يكون أكثر من مناسب إذا ما تحقق لها ما تريد. لكن الأمر يتجاوز حدود المصالح المباشرة والمنطقية التي يمكن أن يلاحظها المراقبون. فسورية بين البلاد العربية المعنية بالقضية الفلسطينية والتي تقع على خط تماس الهجوم الإسرائيلي المستمر منذ عقود، كانت على الدوام ملعباً لتجاذبات القوى الإقليمية والدولية، ولم تعرف سورية الاستقرار إلا في ظل حكم حافظ الأسد الذي نقل الساحة من دمشق إلى البلدان التي تجاور سورية، وتحولت معه سورية الى لاعب إقليمي يُحسب حسابه.

والحق أن ما جعل سياسة الأسد الأب على هذا القدر من الفاعلية والثبات يتصل اتصالاً وثيقاً بموقع سورية الجغرافي بوصفها بوابة من بوابات الشرق الأوسط. فعمل الرئيس الراحل بنجاح وذكاء على الاستفادة من ريع الموقع الجغرافي عبر تأجيره لمعارضات الجوار، وكان في ذلك يصادر من لبنان الصغير دوراً، لم يكن يستطيع حمايته في طبيعة الحال. فلعبت دمشق في ظله الدور الذي كان منوطاً ببيروت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، حيث كانت الانقلابات العربية تخطط في ليالي بيروت المضاءة.

لكن الدولة اللبنانية لم تكن يوماً قادرة على حماية مثل هذا الدور البالغ الحساسية، مثلما استطاعت سورية بقيادة حافظ الأسد أن تحميه. ويمكن القول إنه منذ تسلم الأسد الأب مقاليد السلطة في دمشق باتت العاصمة السورية ملجأً آمناً لكل المعارضين العرب والمطرودين من بلادهم، من اليمن الجنوبي إلى العراق فالأردن ففلسطين ولبنان، من دون استثناء تركيا وإسرائيل. مما جعل هذا الدور بكل تناقضاته واختلافاته الشريان الرئيس الذي تتغذى منه سورية برمتها.

فالنظام السوري، بعد عقود من اللعب بنجاح لا مثيل له على هذه الساحات المتناقضة، بات يعرف كيف يوظف الحركات الإسلامية الأصولية لمصلحته، وبات يجيد تقريب اليساريين من القوميين العرب من الشيوعيين من الحركات الانفصالية. فتعايش في دمشق ذات يوم كارلوس «المناضل الأممي» مع أوجلان «المناضل القومي الكردي»، وإلى جانبهما أبو خالد العملة اليساري ردحاً والإسلامي زمناً، وصولاً إلى شاكر العبسي الذي ورث حركة ادعت أنها على يسار اليسار الفلسطيني لحظة انطلاقها لتصبح مع شاكر العبسي إسلامية جهادية.

لهذا كله لا يبدو أن المقايضة التي حاول خطاب الأسد الابن أن يوحي بها ممكنة التحقق من دون مخاطر جمة على سورية بلداً ونظاماً. ففي مثل هذه المقايضة، وبموجب وديعة رابين أيضاً، تفقد دمشق ريع الموقع الجغرافي ويصبح نظامها واجتماعها مهدداً بالانفجار ما لم يلق النظام دعماً استثنائياً يجنب سورية الانفجار في منطقة بالغة الحساسية.

 

كاتب لبناني

back to top