القيمة في تخفيض القيمة

نشر في 30-08-2007
آخر تحديث 30-08-2007 | 00:00
العملة الـمُـخَفَّضة القيمة تمكن اقتصاد أي دولة من الاندماج في الاقتصاد العالمي اعتماداً على الأداء التصديري القوي، ذلك أن انخفاض قيمة العملة يحفز الإنتاج (وبالتالي تشغيل العمالة)، على عكس رفع قيمة العملة، الذي يحفز الاستهلاك، فبالنظر في تجارب أكثر من مئة دولة، توصلت في إطار بحثي إلى أن كل تخفيض للعملة بنسبة 10% يضيف 0.3 نقطة مئوية إلى النمو.
 بروجيكت سنديكيت إن المأزق السياسي الرئيسي الذي تواجهه الأسواق الناشئة اليوم يتلخص في أن النمو الاقتصادي المستدام، من ناحية، يتطلب أن تكون عملتك النقدية قادرة على التنافس (أو بعبارة أخرى «مُـخَفَّضَة القيمة»). ومن ناحية أخرى، فإن أي أنباء طيبة يعقبها على الفور ارتفاع في قيمة العملة، الأمر الذي يزيد من صعوبة مهمة الاحتفاظ بالقدرة على التنافس.

إذاً، هل نجحت أخيراً في تمرير ذلك التشريع الحاسم؟ هل نجح حزبك السياسي الذي يحترم مسؤولياته المالية في الفوز بالانتخابات للتو؟ هل أحرزت صادراتك من السلع الخام نجاحاً مبهراً؟ هنيئاً لك! ولكن ارتفاع قيمة العملة الذي سيعقب ذلك من المرجح أن يتسبب في إحداث موجة من الاستهلاك غير الصحي، وتخريب قطاع التصدير، ورفع معدلات البطالة، وتقويض فرص النمو. النجاح إذاً يأتي ومعه المكافأة في هيئة عقاب فوري!

وفي محاولة لتصحيح الأوضاع، قد تتدخل البنوك المركزية في أسواق العملة بهدف منع ارتفاع قيمة العملة، إلا أنها لتحقيق هذه الغاية سوف تضطر إلى تكديس احتياطيات أجنبية ذات عائد متدن، وتحويل اهتمامها عن هدفها الرئيسي المتمثل في استقرار الأسعار. وهذه هي الاستراتيجية التي تتبناها دول مثل الصين والأرجنتين.

أو قد تسمح البنوك المركزية للأسواق بالعمل وفقاً لهواها، إلا أن هذا من شأنه أن يثير غضب أصحاب العمل والعمال وبقية أجهزة الحكومة، بل الجهات كلها باستثناء المالية منها. وهذه هي الاستراتيجية التي تتبناها بلدان مثل تركيا وجنوب أفريقيا، التي تطبق أنظمة أكثر تقليدية «تستهدف معالجة التضخم».

الاستراتيجية الأولى مشكوك في جدواها، وذلك لأنها غير قابلة للاستمرار. والثانية غير مرغوب فيها لأنها تشتري الاستقرار على حساب النمو.

لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية العملة القادرة على المنافسة في دعم النمو الاقتصادي. ولا جدال أن كل حالات ارتفاع معدلات النمو تقريباً كانت مصحوبة بسعر صرف حقيقي مُـخَفَّض إلى حد كبير. وينطبق هذا على كوريا الجنوبية وتايوان في الستينيات والسبعينيات بقدر ما ينطبق على الأرجنتين اليوم. ولقد نجحت تشيلي في تحقيق معدلات نمو مرتفعة في الثمانينيات بعد تخفيض قيمة عملتها بنسبة كبيرة. ومنذ التسعينيات تلقت الصين والهند دَفعة هائلة بفضل تخفيض قيمة عملتيهما.

كانت هذه بعض الأمثلة الأكثر شهرة. فبالنظر في تجارب أكثر من مئة دولة، توصلت في إطار بحثي إلى أن كل تخفيض للعملة بنسبة %10 يضيف 0.3 نقطة مئوية إلى النمو.

إن تخفيض قيمة العملة يشكل أداة شديدة الفعالية في تعزيز النمو، وذلك لأن تخفيض قيمة العملة يؤدي ببساطة إلى خلق الحوافز لدى القطاعات الاقتصادية المعززة للنمو. فهو يزيد من ربحية قطاع التصنيع وقطاعات الزراعة غير التقليدية، التي تشكل الأنشطة ذات المستويات الأعلى من إنتاجية العمالة والتي تتمتع في الوقت نفسه بأسرع معدلات زيادة في الإنتاجية.

إن العملة الـمُـخَفَّضة القيمة تمكن اقتصاد أي دولة من الاندماج في الاقتصاد العالمي اعتماداً على الأداء التصديري القوي. ذلك أن انخفاض قيمة العملة يحفز الإنتاج (وبالتالي تشغيل العمالة)، على عكس رفع قيمة العملة، الذي يحفز الاستهلاك.

ماذا يتعين على الساسة وصناع القرار أن يفعلوا إذاً؟ من الأهمية بمكان أن يدركوا أولاً أن العملة القوية المتقلبة أكثر مما ينبغي ليست بالمشكلة التي يستطيع البنك المركزي أن يحلها منفرداً. فرغم أن البنك المركزي يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، إلا أنه يحتاج إلى الدعم من أقسام أخرى من الحكومة، وبصورة خاصة من وزارة المالية. إن الحفاظ على عملة قادرة على التنافس يتطلب ارتفاعاً في المدخرات المحلية نسبة إلى الاستثمار، أو انخفاضاً في الإنفاق الوطني نسبة إلى الدخل. وإلا فإن التضخم المتزايد سوف يبتلع المكاسب المترتبة على القدرة التنافسية.

وهذا يعني أن السلطات المالية تتحمل مسؤولية ضخمة: وهي استهداف تحقيق الفائض المالي البنيوي الذي يبلغ من الضخامة حداً يسمح بتوليد الحيز المطلوب لتخفيض سعر الصرف الحقيقي. قد لا يتمتع هذا التوجه بشعبية كبيرة، خاصة في أثناء تراجع أداء الدورة الاقتصادية. إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتذمر بشأن رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة، وانتهاجها سياسة تخفيض قيمة العملة حين تكون السياسة المالية أقل صرامة من أن تسمح بتخفيض أسعار الفائدة من دون المجازفة بزعزعة استقرار الأسعار.

ثمة آليات أخرى متاحة لزيادة معدلات الادخار المحلي وتخفيض معدلات الاستهلاك غير التوازن المالي. فمن الممكن أن تستهدف سياسات الحكومة المدخرات الخاصة مباشرة، وذلك بخلق الحوافز الدافعة إلى الادخار عن طريق فرض الضريبة المناسبة وانتهاج السياسات الملائمة في ما يتصل بمعاشات التقاعد. والأهم من هذا أن السياسات السليمة قادرة على تثبيط الاستهلاك القائم على الاقتراض من الخارج، وذلك عن طريق فرض ضريبة على رؤوس الأموال القادمة من الخارج (على غرار الأسلوب المتبع في تشيلي)، أو عن طريق زيادة متطلبات السيولة اللازمة للوساطة المالية. والحقيقة أن المكاسب المترتبة على السماح للأموال بالتدفق على اقتصاد ما من الخارج بحرية، هي في الواقع مكاسب متواضعة للغاية.

بتطبيق هذه السياسات تتسع منطقة ارتياح البنوك المركزية إلى الحد الذي يجعلها قادرة على تحرير السياسة النقدية. وعلى القدر نفسه من الأهمية، يتعين على البنوك المركزية أن تشير إلى عامة الناس عن مدى حرصها على الاهتمام بسعر الصرف، وذلك لأهميته بالنسبة إلى الصادرات، وفرص العمل، والنمو المستدام.

وقد يتم هذا من دون الإعلان عن مستوى مستهدف محدد لسعر الصرف. وذلك لاتساع الحيز المتاح للمناورة بين استهداف مستوى معين من سعر الصرف الحقيقي من ناحية، وبين إنكار أي فائدة في سعر الصرف الحقيقي من ناحية أخرى. ولابد أن تكون للبنك المركزي وجهة نظر واضحة بشأن النطاق المناسب لسعر الصرف، وأن يحرص على تحديث وجهة النظر هذه مع الوقت. كما ينبغي عليه أن يعرب عن رأيه حين يرى أن العملة تتحرك في الاتجاه الخطأ.

بمجرد دمج سعر الصرف الحقيقي في القواعد النقدية للعبة، وبفرض استمرار السياسة المالية في تأييد هذا التوجه، يصبح بوسع المستثمرين أن يتطلعوا إلى عملة أقل تقلباً وأكثر قدرة على التنافس. وهذا يعني المزيد من الاستثمار في الصناعات الإنتاجية، وزيادة إجمالي فرص العمل، والنمو الأسرع.

يستطيع أي بنك مركزي أن يتأكد من نجاحه إذا ما دق وزير خزانة الولايات المتحدة بابه متهماً إياه بأنه مذنب بالتلاعب بعملة بلاده.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي لدى كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top