دروس القوقاز
الدروس المستفادة من تجربة الشيشان المريرة هي أن القوة الغاشمة لا تستطيع تغيير الجغرافيا ولا تذويب الهويات الوطنية، ونجاحاتها في هذه الصدد ستكون وقتية محضة.دخلت الشيشان وداغستان ضمير العالم ووجدانه باعتبارهما من قضايا تقرير المصير السياسي التي تستمر بالنزيف على مدار ثلاثة قرون، من دون أن تحل بعد. وكلما حاول العالم تناسي قضية ومأساة القوقاز الذي يضم الشيشان وداغستان، تعود عمليات المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال الروسي لتدق ناقوس النسيان مذكرة بالقضية من جديد، ولذلك مازالت الحرب مشتعلة في القوقاز منذ الغزو الروسي الأول عام 1732 حتى اليوم. تهبط حرارة المواجهة وتعود لترتفع، ثم تهبط من جديد، ولكنها أبداً لا تموت. ويرصد التاريخ توالي الحركات المسلحة القوقازية ضد الاحتلال الروسي؛ فحركة الشيخ منصور المسلحة التي امتدت من عام 1785 حتى عام 1791، أعقبتها حركة محمد إدجي قاضي عام 1811، وحركة الإمام محمد بعدها بثلاثة عشر عاماً. وتتوجت الحركات القوقازية الاستقلالية بحركة القوقازي الأشهر الإمام شامل الداغستاني، تلك التي استمرت ربع قرن قبل أن تُقمع على يد الإمبراطور الروسي ألكسندر الثاني. أنشأ الإمام شامل أول دولة قوقازية في التاريخ، بعد أن وحَّد شعوب القوقاز الجبلية تحت نظام الإمامة، وقاد على امتداد سنوات ثورته أطول حرب ضد روسيا في تاريخها (1834-1859)، ولاتزال ذكراه تشعل حماسة الشعوب القوقازية. لم تبدِ السلطة «الثورية» الروسية ـ منذ نجاح الثورة الروسية الثانية 1917ـ تسامحاً يذكر إزاء شعوب القوقاز وتاريخهم، فوصمت حركات القوقازيين بـ«الرجعية». وبعد أن تولى جوزيف ستالين مقاليد الأمور في الاتحاد السوفييتي السابق، تم تهجير شعوب القوقاز بأكملها من أوطانها إلى براري آسيا الوسطى وقازاخستان، في تطهير عرقي ذهب مثالاً يحتذى في البوسنة وكوسوفو وغيرهما فيما بعد. ثم انفجرت الحرب في القوقاز عام 1994 حين زحف الجيش الروسي على العاصمة الشيشانية غروزني لوأد الاستقلال الذي أعلنته جمهورية الشيشان. وحَكَمَ الغزو الروسي للشيشان اعتبارات عدة لا تتعلق باعتبارات قمع الحركات القومية على أطراف روسيا فحسب؛ بل باعتبارات تأكيد الدور الروسي في القوقاز أيضاً، عوضاً عن انحدار مركزها كقوة عظمى وانسحابها من أوروبا الشرقية؛ هذا الانسحاب الذي قارب الاندحار في شكله ومغزاه. ومن هذه الأهداف أيضاً تأمين الإطلالة الجغرافية على بحر قزوين الغني بالموارد النفطية والغازية، إذ ان استقلال الشيشان وداغستان سيعزل روسيا عن بحر قزوين. مأساة القوقاز أنه نقطة التلاقي الجغرافية للقوى الثلاث التي تحكمت في تاريخه ومصيره وهي روسيا وتركيا وإيران، وموسكو اعتبرت أن احتلالها العسكري للشيشان، هو الترمومتر لقياس درجة حضورها الاستراتيجي في مواجهة القوتين المنافستين. وبإزاحة دوداييف في ظل استمرار النزاع؛ اتفق الطرفان الشيشاني والروسي في صيف 1996 على إيقاف العمليات الحربية، وعلى إرجاء البت في تقرير المصير للشعب الشيشاني لسنوات عدة مقبلة. ولما لم تفِ موسكو بوعودها عادت القضية من جديد في الألفية الثالثة مع شامل باساييف ومقاومته للاحتلال، على الرغم من تورطه بعمليات خطف رهائن في الحافلات والمستشفيات، وهي العمليات التي نالت كثيراً من صدقية المقاومة الشيشانية. ومع اغتيال شامل باساييف قبل عام من الآن، دخلت قضية الشيشان مرحلة جديدة من السبات، ولكن دروس التاريخ تخبرنا أنه سبات مؤقت ما يلبث أن يتبدد بعودة قيادة شيشانية جديدة تقود نضالات القوقاز. وروسيا القيصرية التي احتلت الشيشان لم تختلف عن الاتحاد السوفييتي السابق من حيث إنكار حق الشيشانيين في تقرير مصيرهم، فالأيديولوجيا لا تحرك سياسات الدول، بل المصالح. وروسيا بوتين لم تختلف عن روسيا يلتسين في اعتماد القوة العسكرية لإخماد ثورات الشعوب، طالما تصادمت مصالحها مع مصالح روسيا. أما تجربة الشيشان مع غوغاشفيللي –الذي سمى نفسه ستالين أي الفولاذي- فكانت الأقسى، إذ ارتكب عتاة الفاشيين في عالمنا الثالث فظائع ذهبت مثلاً في التاريخ للتطهير العرقي. حاول ستالين حل القضية الشيشانية على طريقته فقام بتهجير سكان الشيشان جميعهم إلى براري آسيا الوسطى في عملية قضى فيها نحو %20 من سكان الشيشان من الأطفال وكبار السن، حسبما تقول المصادر التاريخية. ولم تقتصر مآثر ستالين على ذلك فقط، إذ قام بتطهير عرقي بالتوازي مع تعديلات حدودية مرسياً الأساس للصراعات الماضية والقادمة هناك، فهناك شعوب قد فقدت أراضيها التي ضُمت قسراً لجمهوريات مجاورة، مثل الشعب الأنغوشي الذي ضُمت أراضيه بكاملها إلى أوسيتيا المتاخمة للمصالح الروسية في جورجيا، ولا تزال مشكلة جمهورية الشركس ذات الحكم الذاتي والتواقة الى الاستقلال، تلك التي تعرف باسم «قره شاي شركسيا» تنتظر حل عقدتها القومية، في حين لا تشي أحوال جمهوريات «كاباردينا بلغار» وعاصمتها نالتشيك، وجمهورية «إيدجيا» وعاصمتها مايكوب بالمناعة والتناغم القوميين. الدروس المستفادة من تجربة الشيشان المريرة هي أن القوة الغاشمة لا تستطيع تغيير الجغرافيا ولا تذويب الهويات الوطنية، ونجاحاتها في هذا الصدد ستكون وقتية محضة. أما الدرس الثاني فيتلخص في أن حق تقرير المصير هو حق ثابت قامت عليه كل حركات التحرر الوطني في العالم. ويضع الدرس الثالث حدوداً للقوة العسكرية التي قد تنتصر أحياناً كثيرة؛ ولكن الحقوق الوطنية لا يمكن إسقاطها بالتقادم.*كاتب وباحث مصري