الكويت من الإمارة إلى الدولة (14)

نشر في 24-06-2007
آخر تحديث 24-06-2007 | 00:00
اتفاقية تنفيق العوائد والاستقالة والتزوير
 د. أحمد الخطيب يستكمل الدكتور أحمد الخطيب سرد ذكرياته في الحلقة الرابعة عشرة من كتاب «الكويت من الإمارة إلى الدولة»، فيروي بالتفصيل تقريباً المراحل التي مرت بها مناقشات اتفاقية تنفيق العوائد النفطية، وكيف تم رفضها من قبل المجلس رغم ضغوط وتهديدات الشركات النفطية، ورغم تأييد الحكومة لموقف الشركات، وفيها يتناول الدكتور الخطيب كيف تمت الاستعانة بالخبير النفطي السعودي الشيخ عبدالله الطريقي الذي كان يعطي نواب المعارضة محاضرات مكثفة لشرح الاتفاقية وبنودها وسلبياتها على واقع المجتمعات النفطية المنتجة، وما تضمنته من إجحاف بحق استغلال هذه الدول لثرواتها.

كذلك يتحدث الدكتور الخطيب عن ظروف استقالته مع سبعة من زملائه الأعضاء من مجلس الأمة بعد تعذر العمل فيه أو التعاون مع الحكومة «نص كتاب الاستقالة في الصفحة السابعة»، ثم يروي عدداً من المواقف والأحداث في فترة تولي الشيخ صباح السالم للحكم بعد وفاة الشيخ عبدالله السالم، وكيف طلب الشيخ صباح منه ومن جاسم القطامي الاستقالة والتفرغ للعمل معه في الديوان الأميري، كذلك يعرض لتصرفات الحكومة آنذاك، والتي كان وراءها الشيخ جابر العلي وخالد المسعود وتقويض بعض الانجازات الدستورية وتقليص عدد من المكتسبات الديموقراطية.

كما يتناول في معرض سرده لذكرياته تزوير الانتخابات والاستعدادات التي اتخذت لذلك في التحضير لانتخابات مجلس 1967.

في 26 يناير 1965 فاجأ مجلس الأمة الكويتي العالم عندما أسقط بالإجماع اتفاقية تنفيق العائدات التي عرضتها شركات النفط الكبرى المهيمنة على إنتاج النفط في العالم ونقله وصناعته. واللافت للنظر هنا أن المجلس كان قد أسقطها بعد أن أقرتها ثلاث دول نفطية هي إيران والسعودية وقطر. وكانت موافقة الكويت كدولة رابعة ضرورية لسريان الاتفاقية على جميع دول الشرق الأوسـط، وتشمـل العـراق الذي رفـض الاتفاقية وليبيا التي لم تبت في أمرها.

كانت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) الناشئة، التي ناضل من أجل قيامها الخبير النفطي العربي الفذ عبدالله الطريقي، قد توصلت مع الشركات إلى الاعتراف بحقوق الدول المنتجة في كامل «العوائد» التي كانت تحصل على نصفها. وأعدت المنظمة النموذج الموحد للاتفاقية، إلا أن الشركات استطاعت أخذ موافقة إيران على صيغة معدلة أعدتها الشركات بعد تقديم رشوة لها بإقراضها 22 مليون جنيه استرليني لمدة عشرين عاماً من دون فوائد ووعدها برفع إنتاجها من النفط بحيث تصبح الدولة الأولى في تصديره، مما اضطر أوبك إلى إلغاء الموضوع من جدول أعمالها إذ إن ميثاق المنظمة يلزم بجماعية القرار.

وهكذا اغتنمت الشركات الفرصة لكي تستفرد بالدول المنتجة كل على حدة كي تثقلها بشروط تعتقد أنها تستطيع تحقيقها بهذه المناسبة.

ولكن ما هي اتفاقية تنفيق العوائد؟

عندما عُرضت الاتفاقية علينا في مجلس الأمة وجدناها أشبه بالطلاسم التي يعسُر فهمها، ففي كل سطر منها توجد إشارات مبهمة إلى اتفاقيات سابقة ومواد وفقرات من اتفاقيات تخص الكويت أو دول المنطقة ورسائل متبادلة في حقب مختلفة من الزمن. فكيف نوافق عليها أو نرفضها ونحن ليس لنا دراية في الأمور النفطية؟ كان لا بد من اللجوء إلى أصحاب الخبرة فاستنجدنا بعبدالله الطريقي الذي استجاب لنا وجاء إلى الكويت على وجه السرعة.

اجتمعنا كلنا - نواب كتلتنا - بالطريقي في بيت جاسم القطامي، فأخذ الطريقي يشرح لنا الاتفاقية ويدرِّسنا التفاصيل، مثلما يدرِّس المعلم طلبته، واستغرقت الدروس عدة جلسات حتى أصبحنا تلاميذ جيدين نلم بكل خبايا الاتفاقية الخبيثة، وقدم لنا فوق ذلك مذكرة تحمل كل تلك التفاصيل.

فهمنا من الطريقي المقصود بالعوائد وهي بالمفهوم النفطي السائد في أمريكا حصة من النفط تعادل 12.5 % تعطى لصاحب الأرض المستغلة نظير استغلال أرضه، إذ إن الثروات الطبيعية هي ملك لأصحاب الأرض التي تقع فيها وليس للدولة مثلنا. وعندما تقوم الدولة باحتساب الضريبة على شركات النفط تستثني من حسابها العوائد (12.5 %) التي تعامل كجزء من تكاليف الإنتاج، فلا تدفع الشركات عنها أي ضريبة، إلا أن الدول النفطية في منطقتنا هي صاحبة الأراضي وهي مالكة الثروات الطبيعية، ولكن الشركات لا تدفع عوائد منفصلة نظير استغلال أراضيها، وهذا معناه أن شركات النفط التي ظلت إلى مطلع الخمسينيات تدفع لنا 4 شلنات أي 200 فلس فقط مقابل كل طن أو سبعة براميل من النفط أي نحو 30 فلساً للبرميل، كانت أيضاً تسرق حصتنا من العوائد التي هي حق ثابت لنا طوال هذه المدة، وهي تأتي الآن لتقول إنها ستبدأ بدفع حصتنا من العوائد كاملة منذ عام 1964 بشرط أن تتحقق عدة أمور:

1 - أن يوافق مجلس الأمة على عدم المطالبة بأية حقوق سابقة، وأن يصادق على جميع الاتفاقيات والتفاهمات القديمة منذ عام 1934 ويجدد الاعتراف بها وبكل نصوصها، ولا يجوز مناقشتها، باستثناء التعديل الذي يتضمنه المشروع المقدم مع كل ما تتضمنه تلك الاتفاقيات القديمة، وأن أحكامه أصبحت خارج روح العصر ولا تحقق المصالح المشروعة للكويت.

2 - أن تمنح الكويت للشركات حسومات على الأسعار المعلنة للنفط لعدة سنوات تبدأ بنسبة 8.5 % وتنخفض سنوياً إلى 6.5 % وهو ما يزيد على الفوائد التي ستجنيها من تنفيق العوائد أو يعادلها.

3 - أن لا تمنح الكويت أي امتياز نفطي لأي شركة بأقل من الشروط المتفق عليها مع الشركات وإلا امتنعت عن الدفع، مما سيقضي على الأمل في قيام صناعة نفطية وطنية ممثلة في شركة البترول الوطنية الكويتية آنذاك.

4 - أن تقبل الكويت في حالة الخلاف بأن يقوم رئيس محكمة العدل الدولية، وليس القضاء الكويتي بتعيين رئيس للمحكمين .

5 - تتعهد الكويت بأن لا تفرض أي عوائد إضافية أو إيجارات أو رسوم جمركية أو ضرائب أو مكوس إلى ما غير ذلك على أي من رأس المال والموجودات والدخل وعمليات الشركة أو الشركات المنتسبة إليها أو عملاء أي منها أو شركات النقل، وذلك بالنسبة إلى الإنتاج والتكرير... إلخ، وهو ما يتعارض وسيادة الدولة وتقييد سلطاتها الشرعية.

وقد شعرنا باستفزاز وغضب شديدين استناداً إلى تلك المعلومات، فقد كانت الاتفاقية التي وافقت عليها الحكومة معيبة واستغفالاً مهيناً من قبل الشركات وحطّاً بالكرامة والسيادة الوطنية. وقد عبّرت عن مدى ازدراء شركات النفط لنا واعتبارنا جهلة كل هذه السنين.

لحسن حظ الكويت أن الاتفاقية عُرضت على مجلس الأمة في شهر رمضان حيث الجلسات مسائية مما شجع المواطنين على حضورها، فكانت القاعة تكتظ بهم، فقدمت الحكومة وخبراؤها الاتفاقية على أنها ممتازة ومكسب كبير لمصلحة البلاد. كان ذلك في جلسة المجلس بتاريخ 23 يناير 1965 على أن يبتّ فيها في موعد أقصاه ثلاثة أيام أي بجلسة 26 يناير. كان هذا مما زاد غضبنا، فإمبراطوريات الشركات العملاقة بطاقمها الكبير من المستشارين القانونيين أمضت سنتين وهي تعدّ وتفصل هذه الاتفاقية الخديعة، وعلينا نحن ممثلي الشعـب الكويتي غير المتخصصـين في شـؤون النفط أن نوافق عليها خلال ثلاثة أيـام، أي أن نبصم عليهـا «عمياني».

انبرينا في مجلس الأمة الواحد تلو الآخر لشرح الاتفاقية أولاً، حتى فهمها الناس، وتميزت في ذلك مداخلة جاسم القطامي. وأخذنا نشرح الجوانب الاقتصادية والفنية والسيادية والخداع والنصب اللذين تمارسهما الشركات، وعدّدنا مساوئها كما درسناها من عبدالله الطريقي. فالتهبت مشاعر الجماهير الحاشدة وأعطت للنقاش حرارة لا تقاوم، فأخذ الوزراء يتسللون من القاعة واحداً تلو الآخر. واستطعنا في الجلسة الأولى أن نأخذ قراراً من المجلس بإحالة الاتفاقية إلى لجنة لتدرسها على أن تقدم تقريراً للمجلس خلال شهرين بدلاً من سقف الثلاثة أيام المشروط من الشركات النفطية والمدعوم من الحكومة. وفي الجلسة الثانية التي شهدت حشداً جماهيرياً أكبر قالت الحكومة إنها استلمت برقية من الشركات تقول فيها إن علينا أن نقر الاتفاقية قبل منتصف ليل ذلك اليوم، أي بعد ثلاث ساعات وإلا عدّت الاتفاقية ساقطة، مما سينتج عنه تخلي الشركات عن التزاماتها المالية، بما في ذلك مبلغ عشرة ملايين دينار تقول إنها كانت ستدفعها عن العام المنصرم 1964. كان ذلك إنذاراً وقحاً، وقد قلت وقتها «إنه يذكرني بإنذار الزعيم الروسي بولغانين عام 1956 الذي هدد بضرب القوات البريطانية بالصواريخ إن لم تنسحب من السويس». أدى ذلك الإنذار إلى ازدياد غضبنا فانبرينا واحداً تلو الآخر مع مساندة عامة من أعضاء المجلس لرفض ذلك الإنذار، واستمرت المناقشة حتى بعد منتصف ليلة 26 يناير 1965 فسقطت الاتفاقية سقوطاً مدوياً.

كان ذلك انتصاراً تاريخياً للشعب الكويتي في مواجهة الشركات النفطية العملاقة وكل ما تمثله من إرث استعماري استغل ثرواتنا وقهر شعوبنا، وقد أذهل قرار مجلس الأمة الكويتي بإسقاط اتفاقية تنفيق العوائد العالم، إذ لم يتوقع أحد أن تأتي الضربة من بلد صغير كانوا يسمونه قبل قليل مشيخة خارجة للتو من حماية بريطانيا ومرتبط باتفاقية دفاع معها، فكتبت عنه الصحف العالمية ورأت فيه مجلة ال Economist البريطانية حدثاً عالمياً مفاجئاً وليس بالحسبان، لأنها كانت تعدّ مجلسنا مجلس بصامة Rubber Stamp وأثبتنا أن مجلسنا غير ذلك مما رفع اسم الكويت عالياً.

وكان أول إجراء اتخذته الحكومـة هو أن ألغت الجلسـات الليلية لمجلس الأمة، وأسقطت كل محاولة لجعلهـا مسائية وإلى يومنـا هذا! في محاولة لإبعاد أبناء الشعب عن حضور الجلسـات والتأثير في قـرارات المجلس.

هكذا قبرت اتفاقية تنفيق العوائد في مجلس 1963، ولكن الحكومة أعادت طرح الاتفاقية في عام 1967، وكان ذلك أول عمل قامت به الحكومة في وجود ذلك المجلس المزور، فوافق عليها بسرعة البرق إذ لم تعقد اللجنة المختصة أكثر من اجتماع واحد وأقرت في جلسة واحدة من جلسات المجلس، مما أقنعنا أن من بين أسباب تزوير الانتخابات هو رفض مجلس 1963 لهذه الاتفاقية المجحفة. ورغم ذلك فقد اضطرت الشركات أن تقدم بعض التنازلات لحفظ ماء الوجه. وتبين مدى كذبها حين أقرت أن الاتفاقية الجديدة ستكون بأثر رجعي يشمل ثلاث سنوات مضت، بينما كانت تقول في مجلسنا إن علينا أن نوافق على الاتفاقية خلال ثلاث ساعات وإلا فقدنا أي حق لنا بأثر رجعي لأن القانون الضريبي البريطاني يقف حائلاً دون ذلك.

عمقت تجربتنا في مواجهة شركات النفط الاستعمارية المستغلة إدراكنا لقوة الإرادة الشعبية وقدرتها على تغيير مسار الأحداث.

وقد تأكد لنا هذا بعد ذلك بسنوات، عندما لجأنا إلى الشعب في تجمعات الإثنين عامي 1989 و1990 لإعادة العمل بالدستور، وكذلك عندما هددنا كتكتل النواب الثلاثين باللجوء إلى الضغط الشعبي بالتظاهر صيف 1992، عندما تلكأت الحكومة بالدعوة إلى الانتخابات بعد زوال الاحتلال الصدّامي، في محاولة للتنصل من تعهدها في جدة بالعمل بالدستور، مما سوف يأتي تفصيله في الجزء الثاني. ألم يُسقط شباب لبنان فيما بعد حكومة عمر كرامي داخل المجلس الذي تملك فيه الأغلبية وهم محتشدون خارج المجلس!

 

استقالة مجلس 1965 وتزوير مجلس 1967 وتداعياته

 

كانت علاقتنا أنا وجاسم القطامي بالشيخ صباح السالم علاقة طيبة، فجاسم القطامي عمل معه في الشرطة ثم في وزارة الخارجية ونشأت بينهما صداقة معقولة.

أما بالنسبة إليّ فلربما كان يثمن دوري في إيصاله إلى ولاية العهد عندما كنت في المجلس التأسيسي كما أوضحت سابقاً، حتى إنه عندما نشأت مشكلة بينه وبعض أفراد العائلة وهدد بالاستقالة وانتشر الخبر وجدته يؤكد لي ذلك شخصياً. إلا أنه قال لي: لقد عدلت عن الاستقالة بسببك لأنني خشيت عليك من الانتقام بسبب وقوفك معي، ربما لم يكن ذلك صحيحاً إلا أنه أكد امتنانه لموقفي.

لذلك عندما تولى الحكم ذهبت إليه مع جاسم القطامي لتهنئته بتوليه الإمارة، قابلناه في مكتبه بقصر السيف فرحب بنا وطلب منا أن نستقيل من المجلس ونكون مستشارين عنده.

رحبنا بالفكرة وقلت له إن جاسم القطامي يستقيل من المجلس ويبقى معك في الديوان الأميري وأنا أبقى في المجلس كي أساهم في تعاون المجلس معك، فقبل هذا الاقتراح. عندها استدعى مسؤول في الديوان الأميري، وقال له قل للإذاعة بأن تذيع بأن الأمير استقبل أقطاب المعارضة ودار نقاش مطول حول الأوضاع وكانت وجهات النظر متطابقة.

واصلنا حوارنا بعض الوقت وعندما قمنا لنودعه استدعى المسؤول مرة ثانية وقال له: هل قلت للإذاعة؟ فرد عليه بالإيجاب، وقال إن ذلك سيذاع في أخبار الساعة الواحدة ظهراً.

عندما وصلت إلى البيت قالت لي زوجتي إن الديوان الأميري اتصل ويريدك أن تتصل بهذا الرقم حال وصولك إلى البيت.

استغربت من ذلك فقد كنت هناك قبل ربع ساعة تقريباً. المهم اتصلت بالرقم فإذا هو المسؤول في الديوان وقال لي أحببت أن أقول لك بأن ما تم الاتفاق عليه لن يذاع. وعلمت بعدها أنه بمجرد خروجنا أنا وجاسم القطامي من عند الشيخ صباح السالم دخل عليه كل من وزير الداخلية والدفاع الشيخ سعد العبدالله الصباح ووزير المالية الشيخ جابر الأحمد الصباح اللذين كانا جالسين في غرفة مجاورة، وحصل التغير في الموقف.

وقد تكرر ذلك الموقف وإن بتفاصيل مختلفة مرة أخرى، ففي تلك الفترة كان اجتماع الأطباء العرب منعقداً في الكويت بدعوة مني كرئيس للجمعية الطبية في الكويت، وكان أن اتخذ المجتمعون قراراً بأن يصار إلى إصدار معجم طبي باللغة العربية، وقدرت تكاليفه بنحو خمسة آلاف دينار كويتي مما لا نستطيع توفيره، فاقترحت على المؤتمر أن يذهب رؤساء الوفود إلى الأمير لطلب المساعدة.

وفعلاً أخذت رؤساء الوفود إلى الشيخ صباح السالم للسلام عليه ولطلب المساعدة، وشرحت له أهمية المشروع طبياً ولسمعة الكويت أيضاً.

فوافق على ذلك فشكرناه وانصرفنا فرحين، لكن عصراً وقد كنت في العيادة، اتصل بي الشيخ صباح السالم بالتلفون ليعتذر عن تعهده بسبب ظروف الميزانية ويطلب مني إفهام الوفد بلباقة سبب التغير.

لم يكن السبب مقنعاً على أية حال، فمخصصات الأمير هي عشرة ملايين دينار سنوياً، كما أن المالية حولت له خمسة ملايين دينار متوفرة لم يصرفها الشيخ عبدالله السالم، وعندما حققت في الموضوع اكتشفت أن من كان في الحجرة المجاورة للأمير وبمجرد خروجنا منه دخلا عليه وكان التغير.

لماذا؟ لأنني كنت الواسطة! ويجب أن لا أشرك في أي شيء، مع أن هذا القرار كان لمصلحة الكويت وسمعتها، ورفضه كان فيه أضرار بسمعة الكويت ومصداقيتها.

بعدها علمت أن في الديوان الأميري من هو مناط به التبليغ بمجرد وصولي إلى الديوان الأميري.

 

الاستقالة من المجلس عام 1965

 

تأخرنا في تقديم استقالتنا من المجلس، بسبب الظروف الصحية لعبدالله السالم، وعندما توفي عبدالله السالم أيضاً تريثنا قليلاً لنحاول مع صباح السالم لعلاقتنا الطيبة معه.

قبيل وفاته أرسل إليّ الشيخ صباح السالم نايف الدبوس وهو صديق وزميل لي، وقال: صباح السالم يسلم عليك ويقول: أنا لا أريد أن يسجل التاريخ أنه في بداية عهدي تم تزوير الانتخابات وفي نهاية عهدي تم حل المجلس، لأن أولادي كيف يواجهون أهل الكويت؟ وأريدك أن تقول للدكتور بأن يتعاون معي في إعادة الأمور إلى نصابها. قلت له: يصير خير.

ولكن، لماذا استقلنا من المجلس؟

فبعد استقالة الحكومة وعندما لم تتمكن من أداء القسم الدستوري في المجلس عام 1964 وقام الشيخ جابر العلي وخالد المسعود بتشكيل الحكومة، رأينا أن المعركة حسمت لمصلحة جابر العلي الصباح، فهو الآن له الأغلبية في مجلس الوزراء ومجلس الأمة، ولم نتوقع أن يكون هناك تغيير أساسي في سياسة الحكومة.

إلا أننا فوجئنا بأن هذه «الوزارة الشعبية» - كما يقولون - أعدت برنامجاً يستهدف النيل من المكتسبات الشعبية التي ضمنها الدستور بدل أن تتخذ إجراءات ضد التجار ولمصلحة العامة من الناس كما كانوا يقولون. وبدأت بشائر هذا المخطط المدمر عندما أقرت قانون المختارين وجعلت تعيينهم يأتي من قبل وزير الداخلية بدل الانتخاب، ثم سارعت إلى تعديل قانون الوظائف العامة لإعطاء الحكومة سلطة فصل أي موظف إذا اقتضت المصلحة العامة، التي عادة ما تكون ليس لها أية علاقة بالمصلحة العامة بل بمزاج الحكومة لاستبدال الموظفين الأكفاء بآخرين طيعين دون النظر إلى الكفاءة.

كذلك فقد غيّرت قانون المطبوعات لتعطي الحكومة الحق بإغلاق الصحف أو إلغاء امتيازها إدارياً ومنعتها من التظلّم للقضاء، وحصر التظلّم بمجلس الوزراء، يعني «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم»، وعدلت كذلك قوانين جمعيات النفع العام والتجمعات بما يقلّص الحريات العامة.

وبعد استقالة عبدالعزيز الصقر من رئاسة المجلس فإن الأغلبية الحكومية منعت المعارضة من مناقشة هذه القوانين، فالرئاسة تسجل جماعة الحكومة في المقدمة وعندما يأتي دور المعارضة يقفل باب النقاش بطلب من نواب الأغلبية المتناغم مع رئاسة المجلس.

كما أن هذه الأغلبية استحوذت على لجان المجلس وحرمت الكفاءات المختصة من دخول اللجان التي هي من ضمن اختصاصهم.

وهكذا وجدنا أنفسنا أمام انقلاب أفرغ المكتسبات الدستورية التي ضمنت للشعب حرياته، وكان ذلك، كما تبين فيما بعد، منعطفاً خطيراً في تاريخ الكويت، إذ بدأت وبإصرار مرحلة جديدة لهدم كل ما بناه الشعب الكويتي من إنجازات حضارية أوجدت له مكانة مرموقة إقليمياً ودولياً.

ومن المؤسف أن تكون هذه المجموعة «الشعبية» التي شاركت في الحكومة مظلّة استخدمها أقطاب النظام في ارتكاب سلسلة من الجرائم في حق الشعب الكويتي، ابتدأت بالانقضاض على الحريات العامة.

وتوجت الحكومة «الشعبية»، التي جاءت تحت ذريعة الحفاظ على أحكام الدستور، أعمالها «الجليلة» بتزوير انتخابات عام 1967 التي تمت جهاراً، ولذلك لم يكن مستغرباً أن تكون تلك الحكومـة التي أعيد استيزارها بعد تلك الانتخابات هي أطول الحكومات عمراً في تاريـخ الحياة النيابية في الكويت، إذ أكملت مدة أربـع سنـوات وهي عمر ذلك المجلس المزوّر عـلاوة على المدة في مجلس 1963.

هكذا بدأ هدم إنجازات الشعب الكويتي المضيئة وكرس ذلك النهج بحل مجلس الأمة عام 1976 ثم إلغاء الدستور عام 1986 ثم إنشاء النموذج البديل للديمقراطية كما يريدها النظام بتنصيب المجلس الوطني في يونيو 1990، وكان ذلك تمهيداً ومقدمة لإلغاء الدولة برمتها في 1990/8/2 مما سوف يأتي تفصيله في الجزء الثاني من هذه المذكرات.

اضطرتنا هذه الإجراءات المدمرة والمستهدفة لإنجازات الكويتيين والإصرار على المضي فيها وشل دورنا في المجلس بمنعنا من النقاش إلى الاستقالة من المجلس كي لا يُسَجَّل علينا أننا شاركنا في هذه المؤامرة. لقد حاولنا أن ننبه نواب الحكومة لخطورة ما يقومون به دون جدوى، بل إن الحكومة بدأت بتطبيق هذه القوانين الجائرة بعد عطلة المجلس، وخصوصاً التخلص من الموظفين المعروفين بكفاءتهم ونزاهتهم، فما كان منا إلا أن عزمنا على تقديم استقالتنا في أول الدورة التالية، ولكن استقالتنا علقت بسبب الأزمة الصحية المباغتة التي تعرض لها الشيخ عبدالله السالم وهو يفتتح دور انعقاد مجلس الأمة، وتأخرت كذلك بعد وفاته وتولي صباح السالم الإمارة كي لا يكون أول تصرف منا يصطدم به في أول تسلمه للإمارة. وعلى أمل أن تجدي محاولتنا معه للإصلاح لطيب علاقتنا معه. 

 

الشعب في جبهة واحدة

 

حاول رئيس المجلس إقناعنا بسحب الاستقالة إلا أننا رفضنا ذلك، فعرضها على المجلس وتبارى عدد من نواب الحكومة بكيل كل الاتهامات والشتائم لنا، ثم تمّت الموافقة على الاستقالة. ولما طلب رئيس المجلس سعود العبدالرزاق من وزير الداخلية دعوة الناخبين لسد الفراغات لم يخف الشيخ سعد العبدالله ابتهاجه بالنتيجة فقال بأعلى صوته فرحاً: «نحن مستعدون!».

بعد مدة جرت الانتخابات التكميلية وانتخب أعضاء جدد، ولكن المقاطعة الشعبية لتلك الانتخابات كانت مذهلة، مما اضطر الحكومة إلى رفض الإعلان عن عدد الأصوات التي حصل عليها الفائزون لأنها كانت فضيحة.

بعد الاستقالة، قمنا بحملة واسعة في الدواوين لشرح أسباب استقالتنا، وكذلك طرح خطتنا للمستقبل ووجدنا تفهماً لوجهة نظرنا وتصميماً على العمل لإنجاح أعداد أكبر من النواب في الجولة القادمة أي بعد سنة وشهرين تقريباً.

كان قرارنا بأن نخوض المعركة الانتخابية بأكبر تكتل ممكن وأصبح لزاماً علينا أن نبحث علاقتنا مع التجار بكل موضوعية وصراحة، لأن علاقاتنا لم تكن سليمة، فهم توقعوا منا موقفاً داعماً أقوى في الأزمة الوزارية التي تعرضوا لها وربما كانوا يتوقعون أن نستقيل عندما تمت إطاحة الوزارة. كذلك فقد شعرنا بأن هناك عدم ارتياح لموقفنا المؤيد للخطوات الإصلاحية أو الاشتراكية التي اتخذها جمال عبدالناصر. هنا جاء دور يعقوب الحميضي حمامة السلام الذي دعانا في مكتبه لبحث هذه العلاقة، وكنا ثلاثة: عبدالعزيز الصقر وجاسم القطامي وأنا. فتبادلنا العتاب وأوضح كل منا وجهة نظره بالنسبة إلى استقالة الوزارة، وكذلك بالنسبة إلى استقالة عبدالعزيز الصقر من رئاسة المجلس وموقفنا منها وكذلك استقالتنا من المجلس. وكان واضحاً أن سبب كل هذه الإشكالات كان في عدم وجود أي تنسيق بيننا، فالكل كان يتخذ قراره دون مشاورة أو حتى إعلام الآخر. وهنا أكدنا أهمية التفاهم حول المواقف. وكانت مناسبة لي في طرح الغبن الذي يحس به المواطن الكويتي العادي في الحصول على الوظيفة المناسبة وحصر ذلك في أفراد عائلة الصباح وفي طبقة العائلات والتجار، وأعطيت بعض الأمثلة الصارخة على ذلك، واتفقنا على الانتباه لذلك وإلا فقدنا التأييد الشعبي الواسع الذي حصلنا عليه والذي من دونه لا يمكن أن نحقق أية إصلاحات مهمة.

كانت هذه الفئات الشعبية الواسعة سواء داخل المدينة أو خارجها تعاني الغبن والتهميش، وأحياناً النظرة الدونية وقد كان ذلك ملفاً بشعاً ومؤلماً ولا يفهمه ولايحس به إلا من عايشه، على الرغم من أن هذه الطبقة تحملت الأكثر في بناء نهضة الكويت وحماية أمنه، فقد ركبت البحر في الغوص والسفر، وواجهت المصائب الكثيرة في ذلك، إذ ضحت في حياتها وحرمت من رعاية أهلها وتوفير الحنان لأطفالها بسبب ابتعادها عن الوطن الأشهر الطويلة، وكانت الوقود للحروب العبثية الكثيرة، وكذلك في الدفاع عن الكويت، دون أن تجد جزاء أو شكوراً، وعرفت قساوة الفقر وثقل الديون التي ترحل إلى الورثة جيلاً بعد جيل، ولم يكن لها حول ولا قوة فاستسلمت لهذا الواقع المؤلم. ثم فجأة وبمجيء الحياة الدستورية وجدت نفسها في صلب اتخاذ القرار، وفتحت القوى السياسية الجديدة لها الأبواب الواسعة لإسماع صوتها والقيام بدورها الفعال في العمل السياسي. واكتشفت أنها الأكثرية وبأن صوتها الانتخابي يعادل صوت أكبر شخصية في البلد، فاندفعت بتأييدها للقوى الوطنية الجديدة التي وفرت لها الكرامة وجعلتها تحتل المواقع المهمة. وعند ضمور القوى الوطنية وبروز الأحزاب الدينية اتجهت إلى هذه الأحزاب الدينية واحتلت المواقع القيادية فيها وأخذت تتصدر المجالس، ووجدت الأحزاب الدينية في الطبقات الفقيرة في الداخل والخارج مرتعاً خصباً لنشر مفاهيمها وتجنيد الكثير في كوادرها الحزبية.

وإذا كانت الحركة الوطنية قد سعت إلى مد الجسور إلى الفئات المتنفذة والتفاهم معها والعمل معاً لتقدم الوطن ليعم الخير على كل أبنائه دون استثناء، فإن القوى الدينية عملت على تعميق التفرقة لا بل على خلق العداء للتجار متناسين دور هذه الطبقة في بناء الكويت والتضحيات التي قدمها هؤلاء في سبيل تحقيق الديمقراطية ووضع دستور 1962، الذي لولاه لما استطاعت هذه الفئات الفقيرة رد الاعتبار لها والاعتراف بتضحياتها وحقها في المواطنة المتساوية وانتقالها من مفهوم الرعية إلى المواطنة.

وسوف تكتشف هذه الفئات الفقيرة أنها في التحاقها بالأحزاب الدينية قد بدأت بحفر قبر لها، لأن هذه الأحزاب لا تؤمن بالديمقراطية ولا بدستور 1962 ولا بحق الشعب في المشاركة في اتخاذ القرار، بل بالطاعة العمياء لأمراء الدين، بما سيهمش دور هذه الفئات ويجعلها تعود إلى المربع رقم واحد. وهذا ليس تنبؤاً بل قراءة لدور الحركات الدينية في الكويت في محاربة الديمقراطية والعداء لدستور 1962 خلال تاريخها الطويل في الكويت. بل إنها تجاهر برأيها حين تعدّ الديمقراطية ومشاركة الشعب في اختيار ممثليه أفكاراً غربية شيطانية كافرة. ومما يزيد في خطورة هذه الأحزاب هو تزاوجها مع الثقافة الجاهلية ثقافة «وأد البنات» وإعطاء الشرعية الدينية لسلب المرأة حقوقها المشروعة واضطهادها باسم الدين.

هذه الجلسة الصريحة والمريحة برعاية الأخ يعقوب يوسف الحميضي مهدت الطريق لتشكيل تحالف واسع لخوض المعركة الانتخابية المقبلة، من رئيس غرفة التجارة والصناعة إلى رئيس الاتحاد العام لعمال الكويت، وأعددنا قوائمنا الانتخابية في جميع الدوائر الانتخابية تقريباً.

كانت المعركة الانتخابية سهلة علينا لأن كل دائرة انتخابية فيها مرشحون مؤهلون قادرون على إدارة حملاتهم الانتخابية بجدارة.

نص خطاب الاستقالة من مجلس 1965

سعادة رئيس مجلس الأمة الموقر،

تحية طيبة وبعد،

لقد كان للبادرة الطيبة بالدعوة لإقامة المجلس التأسيسي وقع طيب في نفوس المواطنين، فاستبشر الشعب خيراً واطمأن نفساً عندما أتى انتخاب المجلس التأسيسي تمهيداً لوضع دستور دائم للبلاد يرسي دعائم المقومات الدستورية، ويصون الكرامة الإنسانية للمواطنين، ويمهد الطريق السوي إلى حياة فضلى ينعم فيها الشعب في ظل وافر من الحرية السياسية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

وقد تم بالفعل وضع دستور دائم للدولة تضمن قواعد إقامة حكم ديمقراطي، ونص في صلب مواده على الضمانات الضرورية لمقومات الحرية الشخصية وحرية العقيدة وحرية الرأي وحرية الصحافة والطباعة والنشر وحرية المراسلة وحرية تكوين الجمعيات والنقابات وحرية الاجتماع الخاص وعقد الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات.

وعلى أساس هذه الضمانات الدستورية تسابق المخلصون من أبناء هذا الشعب إلى ترشيح أنفسهم لعضوية مجلس الأمة، وكان رائدهم في ذلك حمل أمانة تمثيل المواطنين ابتغاء تجسيد ما نص عليه الدستور من مبادئ ومثل عليا والعمل المخلص على تطبيق نصوصها ومقوماتها.

وكان يدخل في الاعتبار أن التجربة البرلمانية للديمقراطية في الكويت تجربة أولى رائدة ينبغي لها تضافر جهود المخلصين من أبناء الشعب لإنجاحها وترسيخها.

ولا جدال في أن التمثيل البرلماني وسيلة لا غاية، فهو وسيلة لتحقيق غاية نبيلة وهي بناء مجتمع أفضل يتمتع فيه الأفراد بكافة الحريات ويحقق المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين ويقيم العدالة الاجتماعية باعتبار أنه في ظل هذه المقومات يتمكن الفرد من الخلق والإبداع، ويستطيع المجتمع الإسهام في إنماء الحضارة الإنسانية، والحق أنه لا يمكن أن يوجد حكم نيابي إلا على أساس من الحريات العامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدل الاجتماعي.

ولا يمكن أن توجد الحريات العامة إلا على أسس توفر المقومات والضمانات لحرية الرأي والعقيدة والتعبير والاجتماع. إن الديمقراطية بمفهومها الواسع ومن ضمنها بطبيعة الحال وواقعه الحرية نفسها التي هي عماد وعنوان الديمقراطية، تختلط بمثل الجماعة وقيمها العامة فتصير جزءاً منها وترسخ في عقول الناس وأفئدتهم ويصبح العيش بدونها أمراً لا يتفق وطبيعة البشر وسنة التحاور، فليس عبثاً إذاً أن نص دستورنا في مواده على كفالة حرية الرأي وحرية الاعتقاد وحرية الصحافة والنشر وتكريس الحرية الشخصية بمفهومها الواضح، وعلى عدم جواز القبض على إنسان إلا وفقاً للقانون، وكذلك حرية الاجتماعات والمواكب، وحق تكوين الجمعيات ومساواة المواطنين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وأن المواطنين سواسية أمام القانون.

تلك هي الضمانات الأساسية للمواطن جاءت في نصوص صريحة وواضحة أضحت الديمقراطية معها تدور وجوداً وعدماً.

وهنا يجب أن نقرر حقيقة ترسخت عبر التاريخ وهي أن المجتمعات البشرية بطبيعتها تتعشق الحرية وتنشد الانطلاق إلى تحقيق المثل العليا، وأن الدساتير وكافة التشريعات لا تنشئ الحرية أو تشيدها من عدم، وإنما تقرر حقيقة واقعة وتصيغها في مواد ثابتة واضحة لإعانة المواطنين ومساعدتهم في ممارسة حقوقهم دون أن تقضي على الحرية أو تمنع من استعمالها.

سعادة الرئيس...

كانت كل هذه الآمال تجول في أذهاننا عندما تصدينا لمهمة تمثيل الشعب والمساهمة في إنجاح التجربة البرلمانية الرائدة متغاضين عن النواقص الموجودة، على أساس أن التجربة ستسير إلى الأمام نحو مزيد من الحرية ومزيد من المساواة، يحدونا في ذلك واقع خدمة الصالح العام، والامتثال لإرادة الشعب.

إلا أننا لاحظنا منذ بداية الفصل التشريعي أن هناك محاولات جاهدة لتقليص الديمقراطية وتقويض الدعامات التي تقوم على أساسها. كانت بداية تلك المحاولات فرض قانون التجمعات الذي حرم المواطنين من وسيلة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم، مجافياً بذلك نصاً دستورياً صريحاً، وهو أن حق الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون (مادة/44)، ورافقت ذلك مواقف مختلفة من الحكومة كانت تنم عن نية غير خالصة في التقيد بالأصول الديمقراطية والضمانات الدستورية.

على أن هذا الاتجاه لم يلبث أن تبلور في دور انعقاد المجلس الماضي عندما ظهر بشكل بارز تكتل أغلبية أعضاء المجلس لتوالي الحكومة وتؤيدها على حق وغير حق دون اكتراث بالمسؤولية التي حمّلها الشعب أعضاء مجلس الأمة عندما انتخبهم، وتحولت بذلك السلطة التشريعية من وسيلة في يد الشعب لتحقيق مزيد من الحريات ومزيد من المكاسب التقدمية إلى أداة في يد الحكومة ووسيلة للضغط وخنق الحريات الشخصية والعامة، وأصبح الوضع في مجلس الأمة أقرب إلى المسرحيات منه إلى المواقف الجادة التي تضع مصالح الشعب نصب أعينها، نذكر بهذا الصدد موقف أعضاء الأكثرية البرلمانية في الأزمة الوزارية المذكورة وموقفها عند مناقشة قانون المختارين، ومن بعد الأزمة الوزارية، وبعد أن ضمنت الحكومة أكثرية المجلس إلى جانبها لمسنا أن هناك هوى جامحاً أخذ يسيطر على الحكومة وأكثرية أعضاء المجلس باستغلال هذه الفرصة باندفاع وإصرار عجيبين لفرض مزيد من القوانين القسرية بهدف تضييق الخناق على حريات المواطنين، وكان أن تقدمت الحكومة بتعديل لقوانين الوظائف العامة والجمعيات والأندية والصحافة والطباعة والنشر وأقرتها الأكثرية البرلمانية دونما اعتبار لتأثيرها السيئ على ممارسة المواطنين لحقوقهم وحرياتهم وتناقضها مع المقومات التي أقرها الدستور.

إن هذه الإجراءات قد أبطلت في الحق مفعول الضمانات الدستورية وصودرت بموجبها حرية الناس في التعبير عن آرائهم وضيق الخناق عليهم، في حين كان ينبغي والبلاد في أول عهدها الديمقراطي أن يؤخذ بيد المؤسسات والجمعيات الشعبية ومساعدتها على أساس أنها وسائل لتعميق الوعي الشعبي وإنضاج الرأي العام وتدعيم الديمقراطية، لا أن يضيق الخناق عليها ويعتدى على حرمة مقارها ويهدَّد ممثلوها.

ولقد أقر الدستور حرية الصحافة والطباعة والنشر وكفلها، وبديهي القول بأن المناقشة العامة الحرة التي يستطيع من خلالها المواطنون على اختلاف ميولهم إبداء رأيهم بكامل الإخلاص والحرية، هي دعامة للنظام الديمقراطي وهي التي تنير الرأي العام والتي تعطي لأحكامه وقراراته قيمتها، ولهذا قيل إنه لا قيمة البتة لما يجري في النظم المطلقة من صور الاستفتاء أو الاقتراع أو التصويت لأنه لا يسبقها مناقشة علنية حرة، وهكذا فإن إقدام الحكومة على سن التشريع يكبّل حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والنشر هي من نوع ما تباشره الحكومات التي تحكم في ظل الدكتاتورية والعنت، وتحاول تكبيل العقول والأرواح والذي يدل عن عدم السماحة وضيق الصدر لأنها قائمة على الإرهاب والتضليل والإزعاج وحجرها على حرية الرأي وحرصها على ألا يرى الناس من الأشياء إلا الجانب الذي تريدهم الدولة أن يروه ولا يروا غيره.

لقد أصبح من المستحيل مع وجود القوانين الحالية المقيدة للصحافة والنشر ممارسة الصحافة لوظيفتها في تنمية الرأي العام وتنويره بإخلاص ودون ممالأة، إذ كيف تستطيع الصحافة أداء مهمتها حين يكون من العسير عليها أن تميز بين ما يجب أن تتناوله بالبحث والانتقاد وما يجب أن تتجنبه خشية أن تقع تحت طائلة العقاب حين يكون القانون هو إرادة الحكومة ورضاها.

ولقد اكتملت هذه الحلقة السوداء من سلسلة فرض القوانين القسرية بتعديل قانون الوظائف العامة، فقد سلب هذا التعديل الذي تقدمت به الحكومة وأقره المجلس الضمانة الأساسية للمواطن الموظف، حين جعل مصيره معلقاً بإرادة أفراد الحكومة، وأصبح الموظف يعيش تحت تهديد دائم، ولم تقف سياسة الحكومة عند هذا الحد فاتخذت من الإجراءات ما من شأنه إفساد الجهاز الإداري وبدأت بشن حرب شعواء ضد كل المخلصين، سواء كان ذلك بالضغط تمهيداً للحمل على الاستقالة أو المضايقة الخفية في الوقت الذي بوشر فيه في تكتيل وتجميع وإغراء طائفة من الموظفين لا تحقيقاً للصالح العام بل لأغراض شخصية بحتة، وأصبحت الوظائف العامة وسيلة بيد أعضاء الحكومة توزع لكسب المؤيدين وتحقيق المكاسب الشخصية، وهكذا وصلنا إلى حالة غريبة  شاذة لم يتعودها هذا الشعب النبيل، بل فيها خرق صريح للدستور الذي يقرر أن الوظائف العامة خدمة وطنية تناط بالقائمين بها ويستهدف موظفو الدولة في أداء وظائفهم المصلحة العامة (مادة/62).

سعادة الرئيس...

إن الأصل في الدستور هو كفالة الحريات العامة وضمان حرية الرأي والعقيدة، والاستثناء هو وضع حدود لهذه الحرية وذلك بسن قوانين من شأنها تنظيم ممارسة تلك الحريات وضبطها حتى يكون المواطنون على بيّنة من الحدود التي لا يتجاوزونها وتلك طبيعة التشريع، فالأصل الدستوري إذاً هو الحرية، وقد كفل الدستور هذا الأصل والاستثناء هو القيد ولا يجوز أن يمحو الاستثناء الأصل أو يجور عليه أو يبطله أو يعطله، فالمشرع فيما عدا حالتي الحرب والأحكام العرفية لا يملك أن يجور على حرية الرأي بحيث يعوقها عن أداء وظيفة من وظائفها في النظام الديمقراطي، لأنه لا يملك أن يعطل عمل النظام الديمقراطي تعطيلاً كلياً أو جزئياً، وإنما يملك فقط أن يضمن بتدبير أو بجزاء عدم تجاوز حرية الرأي في الحدود التي تفرضها عليها طبيعتها ووظائفها المطلوبة منها في البيئة الديمقراطية التي تعمل فيها، ولكن للأسف فقد كبل الشعب بقيود قاسية لا يمكن أن يصار إليها إلا في حالتي الحرب وإعلان الأحكام العرفية.

سعادة الرئيس...

إن تاريخ التجارب الديمقراطية، وعلى الأخص في البلاد العربية، قد علّمنا أن جوهر الديمقراطية إنما يكون بالتجسيد المخلص للمبادئ والمثل الديمقراطية القائم على أساس حسن النية، فالديمقراطية ليست أشكالاً ونصوصاً جامدة وإنما هي سلوك وممارسة، وبدون الحرص عند التطبيق على المبادئ والمقومات التي تضمنها الدستور، فإن الديمقراطية تصبح مظلة فارغة بدون محتوى وشكلاً بدون معنى.

ولقد بات واضحاً أن الغرض الحقيقي وراء سلوك الحكومة ومؤيديها وما تم من إجراءات وتصرفات هو محاولة إجهاض التجربة الديمقراطية وتزييف إرادة الشعب والقضاء على عنصر وطني يرفض الانصياع لأوامر الحكومة، ولقد تذرعنا بالصبر الجميل رغبة منا في أن تصفو النفوس وتستيقظ الضمائر، وحاولنا جاهدين الوقوف في وجه هذا الاتجاه الجامح، والتنبيه إلى مواطن الخطأ والتذكير بحكم الدستور عندما كنا نلمس أن هناك انتهاكاً لنصوصه وافتئاتاً على الحياة الديمقراطية، إلا أن محاولاتنا هذه لم تعد مجدية أمام تمادي وإصرار الحكومة ومؤيديها.

وهكذا أصبحت مسافة الخلاف بين الحكومة ومؤيديها من جانب وبين جماهير الشعب من جانب آخر واسعة عميقة، وتحوّل بذلك مجلس الأمة إلى مؤسسة لا ديمقراطية ومصدر لقوانين جائرة لا تتفق وإرادة الشعب.

سعادة الرئيس...

هذا بإيجاز حقيقة الوضع الراهن الذي تعيشه الكويت، وهو وضع بات السكوت عنه جريمة لا تغتفر بحق هذا الشعب، وهي في الحق محنة رأينا أن نوجز عناصرها للمواطنين وللمجلس لأننا لم نعد نحتمل مسؤوليتها التاريخية، وشعوراً منا بأن الحرية والكرامة الإنسانية لم يعد لها وجود على الرغم من نصوص الدستور الذي هو نقطة الانطلاق كما جاء في مقدمته بالحرف الواحد:

... سعياً نحو مستقبل أفضل ينعم فيه الوطن بمزيد من الرفاهية... ويفيء على المواطنين مزيداً كذلك من الحرية السياسية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ويرسي دعائم ما جبلت عليه النفس العربية من اعتزاز بكرامة الفرد وحرص على صالح المجموع وشورى في الحكم.

لكل ما تقدم وشعوراً منا بأن التمثيل النيابي أمانة كبرى في أعناقنا يجب أن تؤدى بكل شرف وننزاهة، وشعوراً منا بأن القيام بهذا الواجب في ظل هذه الظروف أصبح أمراً مستحيلاً، لذلك فإن بقاءنا في المجلس والمشاركة في أعماله هما مساهمة في تضليل المواطنين وإيهامهم بأن الديمقراطية في أمان في حين أنها تتعرض للتزييف، وبأن الدستور مصون في الوقت الذي تتعرض فيه نصوصه لانتهاكات صارخة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أننا كنا قد عزمنا على الاستقالة بعد انسحابنا من الجلسة التي أقرت فيها التعديلات الجائرة لقوانين المطبوعات والنشر والموظفين والأندية في نهاية الدورة الماضية، بيد أن شعورنا باستحالة وبعدم تصور إمكانية إعمال نصوص تلك التعديلات قد جعلنا نعدل عن تقديم استقالتنا، ولكن بعد فض الدورة الماضية وخلال العطلة الصيفية للمجلس شرعت الحكومة تطبق تلك التعديلات، الأمر الذي وجدنا فيه أنفسنا مضطرين لاتخاذ هذه الخطوة في أول جلسة يعقدها المجلس، ولكن الحادث المؤلم الذي تعرض له أمير البلاد المعظم والذي أودى بحياته الغالية، بعد ذلك قد اضطرنا إلى التأجيل والتريث.

ولقد كان يحدونا الأمل أن تأتي حكومة جديدة تصلح ما أفسدته الحكومة السابقة، إلا أن تشكيلها على النحو الذي تم والبيان الذي قدمته إلى المجلس جعل الاستقالة أمراً لا مندوحة منه لانتفاء كل أمل في الإصلاح وتدعيم وحدة الشعب والمحافظة على مكاسبه الدستورية.

إزاء كل ذلك، نجد أنفسنا مضطرين إلى إعادة الأمانة إلى الشعب مصدر السلطات، ونتقدم باستقالتنا هذه من مجلس الأمة.

 

وتفضلوا بقبول فائق التحية،

 

العضو عبدالرزاق الخالد الزيد

العضو سامي أحمد المنيس

العضو علي عبدالرحمن العمر

العضو أحمد محمد الخطيب

العضو راشد صالح التوحيد

العضو يعقوب يوسف الحميضي

العضو جاسم عبدالعزيز القطامي

العضو سليمان خالد المطوع

الكويت في 7/12/1965

 

back to top