محمد مستجاب... عارياً مضى!

نشر في 02-07-2007
آخر تحديث 02-07-2007 | 00:00
 محمد سليمان   يلج مستجاب عالم الواقعية السحرية فيكتب قبل ثلاثين عاماً عن قرية تصاب بالخرس، قبل أن نقرأ رواية العمر للبرتغالي ساراماجو بربع قرن، وحين شُلَّ اللسان بدأ التحول وانفتحت أبواب الجحور فظهر المسكوت عنه والسري.

عامان مرا على رحيل القاص محمد مستجاب الذي خدعنا ورحل فجأة في أواخر يونيو 2005، قبل أن يكتب الروايات والقصص التي حدثنا عنها وقص علينا معظمها في المقاهي وفي منزله.

عرفته عام 1970 عندما التحق بمجمع اللغة موظفاً بسيطاً، وكان قبل عمله في المجمع قد مارس مهناً عدة منها، مساعد خطاط- كاتب محامي- موظف في شركة «المقاولون العرب»، وشارك في ملحمة بناء السد العالي.

بين عامي 1970 و1985 كتب مستجاب ونشر عدداً من أهم قصصه التي رسخت وجهه ككاتب كبير منها؛ عارياً مضى – القربان – عباد الشمس –كوبري البغيلي – حرق الدم – موقعة الجمل – الجبارنة.

بالاضافة إلى روايته الأولى «من التاريخ السري لنعمات عبد الحافظ» في كل كتابته انشغل مستجاب بالمسكوت عنه، والمخبأ، والسري، فانطلق باحثاً ومفتشاً في الذات والتراث والواقع، مستخدما اللغة العامية أحيانا والفصحى بمستوياتها في أغلب كتاباته، وقافزا في الوقت ذاته من الواقعي إلى الخيالي والأسطوري. بعض قصصه أسست الواقعية السحرية «القربان وعباد الشمس» قبل أن نقرأ ونعرف كُتاب أميركا اللاتينية، والبعض الآخر دار في إطار رمزي «حرق الدم – كوبري البغيلي». وانشغل بالأسطورة في مجموعته «قيام وانهيار آل مستجاب».

والمتابع لأعماله سيتذكر قصته «عاريا مضى» التي نشرت في منتصف السبعينيات، التي تعد في تقديري مفتاحاً لعالم مستجاب الإبداعي، وهي عن رجل يستخرج الأفاعي من جحورها ومخابئها يقف في مدخل المنزل هزيلاً ونصف عار ٍ.. وقائلا لصاحبة المنزل «آخد جنيه» فتنهمر عليه عبارات الرفض والسخرية «أنت يعني هتطلع عفريت؟»، ويصر الرجل على الأجر الذي حدده لإنجاز مهمته «جنيه كامل .. وبيني وبينكم حد الله»، ورغم الخلاف على الأجر وعبارات السخرية يخلع الرجل جلبابه ويمارس عمله «مدد يا رفاعي بحق حياة النبي وكلمة الإسلام يا قوة الكرامة ونور الحبيب مدد يا صاحب السطوة ومكمم الفواتك».. ويسمع الناس فحيح الثعبان، ويهمس الرجل «هاخد جنيه يا حاجه»... ويرد شيخ وقور «ربع جنيه كفاية يا أبو الخال»، ويواصل الرجل عمله «مدد يا رفاعي سقت عليك النبي تبلع سمك وتكسر نابك برضه هاخد جنيه»، يهمس الرجل فيصيح أحدهم الرجل ده حرامي ورغم الإهانات يخلع الرجل سرواله ليصبح عاريا تماما ويركع في مدخل المنزل، وهو يصيح «انزل يا مجرم وحياة أبو القاسم .. سُقت عليك أم هاشم»... وببطء شديد يخرج الثعبان زاحفاً من الأعماق ليراه الجميع فيهمس الرجل شفتوه؟ ويضع ملابسه في السلة ويتناول عصاه ثم ......عاريا مضى.

مستجاب هو ذلك الرفاعي بطل قصته الذي يصر رغم السخرية والإهانة على الكشف عن المخبأ والسري واستخراج الثعبان من الأعماق المظلمة فقط لكي يراه الجميع، ولكي يعرفوا أنه هناك وأنهم مهددون.

في قصة القربان التي نشرت قبل أكثر من ثلاثين سنة يلج مستجاب عالم الواقعية السحرية فيكتب عن قرية تَُصاب بالخرس «قبل أن نقرأ رواية العمى للبرتغالي ساراماجو بربع قرن»، بأسلوبه الساخر يحدثنا مستجاب عن الشلل الذي باغت لسان قريته «كان أحد رجال قريتي جالسا على رأس حقله يردد مواويل الصبر الشهيرة حينما ثقل لسانه فجأه وتلجلج وفي نهاية اليوم فقد تاجر الحمير النطق، وقبل أن تفيق القرية خرست امرأة متدينة، ونهش ثعبان لسان المشرف على الأسواق، وانشرخ لسان صانع التماثيل حتى خطيب المسجد الورع انفتح فمه عن آخره، وهو واقف على المنبر يحث المؤمنين على الصبر ونبذ المعصية، وظل فمه مفتوحا حتى تنبهت إليه الجماهير.

انشَّل اللسان فبدأ التحول وانفتحت أبواب الجحور فظهر المسكوت عنه والسري «بدأت قريتي تنمي لغة الإشارة واكتشفت فن التصفيق وراحت تطوره ومع استبدال التصفيق باللسان تتحول القرية إلى نشاطات أخرى مرافقة الغوازي والراقصات – إحياء الحفلات والمهرجانات... الخ، الأمر الذي يقود إلى استبدال النباتات المخدرة بالزراعات التقليدية ثم حفلات الجنس ومتاجرة القرية ببناتها –أحدهم يقتل زوجته لأنها أنجبت خمسة ذكور دون إناث وعند محاكمته تعلل بخراب البيت مستقبلاً، وتنتهي القصة بهلاك القرية وضياعها.

من الاشتباك بالواقع ينتقل مستجاب إلى ذاته المسكونة بالأضداد ليسخر منها ويعريها. نرى ذلك في «قيام وانهيار آل مستجاب»، حيث يصبح تفكيك الذات همه الأول لإبراز تشوهها وجملة الأضداد التي تشكلها. فنرى مستجاب العالم، والجاهل الشره، والقانع العاجز، والقادر الحكيم صانع الألغاز الذي يختبر الآخرين، والأحمق الذي يفترسه الذئب لأنه لم يستطع حل لغز بسيط.

تميز مستجاب بأسلوبه الساخر وتجربته العميقة والمتسعة وقدرته على الرصد، واطلاعه الواسع على التراث الشعبي، ومن ثم توظيفه للأمثال والحكم والمأثورات والمواويل وخصوصيات القرية المصرية.

قبل وفاته بسنوات هاتفني سعيداً لأن صديقنا المسؤول الكبير والناقد الكبير أيضا انتحى به واضعاً يده على كتفه، وقائلاً له أنت كاتب كبير يا مستجاب لماذا لا ترشح نفسك لجائزة التفوق؟ كانت سعادته كالطوفان، وهو يقص علي ما دار بالتفصيل... فقد كان طفلاً كبيراً مشاكساً وعنيداً يستعبده الإطراء والتعاطف رغم قناع البداوة والشراسة الذي اتخذه وسيلة يدافع بها عن نفسه وعن كتاباته، خاصة بعد تجاهل النقاد له، وبعد أن رأى الاحتفاء بالرداءة وبغير الموهوبين الذين يجيدون فقط نسج العلاقات وخطف جوائز الآخرين. ولم يحصل مستجاب على الجائزة التي كان يحلم بها إلا بعد وفاته.

back to top