بوتين والتيلوروكراتيا في مواجهة بوش التالاسوكراتيا
تجد التصورات الجيوبوليتيكية الروسية سياقها الأشمل في الصراع الذي تعتبره حتمياً بين «التيلوروكراتيا» أي القوى البرية، و«التالاسوكراتيا» أي القوى البحرية، ووفق هذه التصورات جسدت روسيا القيصرية القوى البرية، في حين قادت بريطانيا العظمى القوى البحرية طوال القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كرست واشنطن نفسها قائدة للمعسكر الغربي بالمعنى السياسي، والقوى البحرية بالمعنى الجيوبوليتيكي.قبل أن تخفت الأصداء السياسية والإعلامية المتولدة عن الأزمة الروسية-الأميركية بسبب نشر الصواريخ الأميركية في أوروبا الوسطى، عادت المناورات العسكرية التي أجرتها الدول المنضوية تحت إطار «منظمة شانغهاي» وعلى رأسها روسيا والصين في منطقة جنوب الأورال لتزيد من احتدام الجدل الدائر حول السياسة الخارجية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إذ لم تتغير التصورات الجيوبوليتيكية لدى الكرملين في فترة رئاسة فلاديمير بوتين عن مثيلاتها إبان العصر السوفييتي، فالمشترك الأكثر وضوحاً بين العصرين هو معارضة النظام الدولي ذي القطب الواحد. لذلك فقد عادت السياسة الروسية في عصر بوتين لتكون محكومة بالتصورات الجيوبوليتيكية الكلاسيكية الروسية؛ وما يتفرع عنها من اعتبارات ومصطلحات مثل «التوازن في القوى»، «التحالفات العسكرية»، «النظام الدولي متعدد الأقطاب»، و«المعادلات الصفرية»، و«المناطق العازلة»، و«مناطق النفوذ». وبسبب اختلال التوازن في النظام الدولي، من جراء انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق، لم يعد لدى الكرملين الآن نفس الهامش والقدرات التي تحرك من خلالها للتأثير في النظام الدولي ثنائي القطبية. ولذلك تعتبر روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي المنهار أن الوسائل المتاحة حالياً لممارسة دورها العالمي ستختلف بالضرورة. وعوضاً عن قيادتها لتحالف أوروبي-آسيوي (أوراسي) واسع، أو ما أطلق عليه «منظومة الدول الاشتراكية»، سعت روسيا منذ تولي فلاديمير بوتين مقاليد السلطة في موسكو عام 2000 إلى تثبيت «حلفاء استراتيجيين» لها في مواقع مختلفة كمناطق عازلة أو «حوائط صد» ضد النفوذ الأميركي في العالم. ووفق هذا التصور تكون الصين في شرق آسيا والهند في جنوب آسيا أهم حلفاء موسكو في العالم حالياً، وعلى النسق ذاته، تحتل الهند مكانتها لدى روسيا في جنوب آسيا، وإيران في منطقة الشرق الأوسط باعتبارها الشريك الوحيد لروسيا في هذه المنطقة الحيوية من العالم. تجد التصورات الجيوبوليتيكية الروسية سياقها الأشمل في الصراع الذي تعتبره حتمياً بين «التيلوروكراتيا» أي القوى البرية، و«التالاسوكراتيا» أي القوى البحرية. ووفق هذه التصورات جسدت روسيا القيصرية القوى البرية، في حين قادت بريطانيا العظمى القوى البحرية طوال القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كرست الولايات المتحدة الأميركية نفسها قائدة للمعسكر الغربي بالمعنى السياسي، والقوى البحرية بالمعنى الجيوبوليتيكي. أما روسيا قائدة القوى البرية فقد تغطت بعباءة الاتحاد السوفييتي لمواجهة القوى البحرية وزعيمتها الولايات المتحدة الأميركية، ليخوض قطبا الجيوبوليتيك الكوني صراع القرن العشرين الذي ربحته القوى البحرية، كما ربحت صراع القرن التاسع عشر من قبله. ولكن التصورات الجيوبوليتيكية الروسية تعتقد أن هزيمة القوى البرية لا تعدو أن تكون ظاهرة مؤقتة؛ تعود بعدها منطقة الأوراسيا تحت قيادة روسيا إلى رسالتها القارية. تلك التي تأخذ في الحسبان جميع العوامل الجيوبوليتيكية التي أغفلتها تجربة روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي السابق؛ لتحقق في النهاية انتصارها على القوى البحرية. ويتخطى هذا الصراع بالمفهوم الجيوبوليتيكي الأبعاد السياسية والأيديولوجية والاقتصادية وغيرها من عوامل ومحددات الصراعات، التي لا تنتهي إلا بسيطرة أحد الطرفين على الآخر سيطرة تامة. ولذلك فمهما اختلت موازين القوى بين الطرفين، يظل الصراع قائماً بوسائل مختلفة.تعتبر منطقة الأوراسيا (تضم وسط أوروبا ومنطقة جنوب الأورال!!) الممتدة من أوروبا حتى روسيا الآسيوية هي الساحة الأصلية لهذا الصراع، بسبب موقعها الاستراتيجي الفارق الذي يشكل شرطاً ضرورياً للسيطرة على جيوبوليتيك العالم. ولأن روسيا لا تملك القدرات الصراعية التي تمكنها من المجاهرة بصراعها الحتمي مع الولايات المتحدة الأميركية قطب النظام العالمي الأوحد، تقتصر الدبلوماسية الروسية على معارضة معلنة للسياسات الأميركية في مناطق العالم المختلفة، في حين تشتد هذه المعارضة حين يتعلق الأمر بالساحة الممتدة بين أوروبا وآسيا الوسطى، أي الساحة الأوراسية. وفي هذا ما يفسر المعارضة الروسية الشديدة لنشر شبكات الصواريخ الأميركية في بولندا والتشيك، لأن ذلك يؤدي إلى محاصرة القوة الروسية داخل حدودها السياسية ويثبت سيطرة القوى البحرية على أوروبا، الممر الإجباري لتلاحم القوى البرية الرئيسة في روسيا وألمانيا. وحتى تجد الأفكار المؤسسة للجيوبوليتيك الروسي الجديد تحقيقها على أرض الواقع، يجب العمل على تكوين موسكو محاور جيوبوليتيكية جديدة وهي: المحور الغربي موسكو- برلين، والمحور الشرقي موسكو-بكين، والمحور الجنوبي موسكو- طهران. ولكل محور أهميته لتحقيق الأهداف الجيوبوليتيكية البرية، وفي هذا الإطار يحقق المحور الجنوبي لروسيا الخروج إلى المياه الدافئة (الخليج العربي). وهو هدف جيوبوليتيكي ظلت موسكو قروناً طويلة تسعى إليه ولم تتمكن من تحقيقه سواء عبر المحيط الهندي أو عبر البوسفور والدردنيل أو حتى جبل طارق. ولكل ذلك تجسد المعارضة الروسية لتوسيع النفوذ العسكري الأميركي في أوروبا وتحالفاتها مع الصين والهند وإيران، فضلاً عن المناورات العسكرية الضخمة التي تقوم بها، استمراراً للصراع الممتد منذ القرن التاسع عشر حتى القرن الحادي والعشرين. إنه الصراع الجيوبوليتيكي الأساسي بين القوى البرية (التيلوروكراتيا) ممثلة في فلاديمير بوتين ضد القوة البحرية (التالاسوكراتيا) بزعامة جورج بوش، يتبلور ويهدر... بالرغم من تعدد الساحات والأدوات. *كاتب وباحث مصري