المعضلة السياسية والديمو-طبوغرافيا الكردية
من يراهنون على قضية الحسم العسكري المتركزة في شمال العراق وجنوب تركيا، ينسون أن القضية لها امتداد أكثر من واقع عسكري وطبوغرافي متناثر في مناطق معقدة تضاريسياً.يتابع العالم هذه الأيام جحافل الجيش التركي المتوجهة إلى شمال العراق، تحضيرا عسكريا لجولة حاسمة ومصيرية للحكومة التركية الجديدة، إذ تحاول حكومة أردوغان برئاسة غول وحزب العدالة والتنمية، أن تؤكد ليس للمجلس القومي الأعلى في تركيا فحسب، بل للشارع السياسي التركي المشحون بغضب عارم وزخم قومي شديد، لرد الاعتبار إلى العزة القومية، متناسياً الشارع أن النظام التركي طوال 28 عاماً عجز عن القضاء النهائي على حزب العمال الكردستاني، حتى إن نجح في اصطياد أوجلان في كينيا.هذه المرة الوضعان الداخلي والإقليمي مختلفان بعض الشيء، فما عاد نظام صدام موجوداً، كما يقف على سدة الحكم حزب بإرث ديني وبرداء قومي، محاولاً التأكيد للشارع بأنه أكثر ولاء لتركيا الكمالية والعلمانية من الجيش. ويأتي تحرك المؤسسة العسكرية بالتنسيق مع المؤسسة السياسية، خصوصاً أن قرار الانطلاق نحو شمال العراق والاستعداد للدخول في حرب مكلفة نابع من رغبة متطابقة بين الاثنين، وإن كانت هناك مسافة مختلفة من الرؤية في التوقيت وآلية التنفيذ، ففي الوقت الذي يرى فيه أردوغان وغول، أن استنفاد الخيارات السياسية والدبلوماسية لم نصل إليه بعد، فمازال هناك متسع من الوقت لاحتواء مشكلة الأكراد لا سيما قضية حزب العمال الكردستاني، فيرى صقور المؤسسة العسكرية أن الخيار العسكري، ينبغي أن يكون في مقدمة تلك الخيارات، قبل أن تتساقط الثلوج وتختفي الصقور الكردية في جبال شاهقة وتضاريس وعرة. فإذا ما كان التوازن العسكري كبيراً حتى الآن، ما بين ثلاثة آلاف مقاتل كردي ومئة ألف عسكري تركي مدججين بأسلحة حديثة ومتطورة، فإن حرب الأغوار والمدن تصبح أكثر تعقيداً من مسألة اختلال التوازن العسكري بين طرفين غير متكافئين. وإذا فلتت المسألة الكردية من عقالها ولم تجد حلاً ناجعاً ومرضياً، فإن الانتقال إلى المدن والأحياء التركية يجعل من المسألة الكردية معضلةً سياسيةً أوروبيةً بالدرجة الأولى، إذ يرى الأوروبيون والأكراد أن أحد أسباب العنف، مصدره تباطؤ الحزب الحاكم والمؤسسة العسكرية ومماطلتهما في منح الأكراد في تركيا مزيداً من الحقوق السياسية والمدنية ومراعاة حقهم في المطالبة بحكم ذاتي موسع. من يراهنون على قضية الحسم العسكري المتركزة في شمال العراق وجنوب تركيا، ينسون أن القضية لها امتداد أكثر من واقع عسكري وطبوغرافي متناثر في مناطق معقدة تضاريسياً، إذ تكمن هناك حقائق تاريخية وسياسية لشعب يفوق عدده الخمسة عشر مليوناً من الأكراد، المتعطشين لحقوق مدنية وسياسية يرونها منتقصة، في وقت يردد فيه الساسة الأتراك لنظيريهم الأوروبي والأميركي أنهم عازمون على فتح باب الحوار إزاء المسألة الكردية وحقوق الأكراد. يأتي تحرك القوات العسكرية التركية نحو شمال العراق في ظروف سياسية معقدة، فمن جهة تستقبل إسطنبول في الثاني من نوفمبر مؤتمراً إقليمياً يناقش فيه وزراء خارجية المنطقة قضية العراق، تكون على أجندته مسائل أساسية من ضمنها مسألة كركوك، لهذا يصبح التحرك التركي نحو الشمال العراقي في هذه الفترة ليس إلا ورقة سياسية واضحة المعالم، فالنفط في كركوك له رائحة مهمة للجانبين، التركي والعراقي، وليس مسألة المئة ألف تركي في هذه المدينة إلا قميص عثمان، ففي الوقت الذي يهمل فيه الأتراك مصالح خمسة عشر مليون كردي لديهم إلى جانب حقوق أقليات أخرى، يصرون على حماية الأقلية الضئيلة التركية في منطقة كركوك عصب النفط الحيوي للطرف التركي وشريان الحياة الاقتصادية والطاقة لدى الجانبين. وستتمحور مناقشة أردوغان مع كوندوليزا رايس في واشنطن الأسبوع القادم، حول ثلاث مسائل جوهرية: أولاً، كيف تحل تركيا والولايات المتحدة عقدة التناقض والصراع في الوقت نفسه على منطقة باتت معضلة لدى حليفين تاريخيين هما الولايات المتحدة وتركيا بشأن ملف العراق وفي مقدمتها المسألة الكردية، فمن جهة ترى تركيا أن خيارها العسكري حتميٌّ إذا ما ظلت قفازات حزب العمال الكردستاني تتحرك من شمال العراق، وبضوء أخضر أميركي يعد هو الداعم الحقيقي لحكومة كردستان العراق وإقليمه المتميز بصلاحيات واسعة وقوية من حكومة بغداد المركزية، والمسألة الثانية، قضية نفط كركوك وآلية التعامل بشأنه بين أطراف ثلاثة، الولايات المتحدة وتركيا وحكومة كردستان العراق، التي تراهن على تحويل أربيل العاصمة إلى «دبي جديدة» في المنطقة وفق تصريحات مسعود البرازني، أما المسألة الأخيرة، وحسب تصريحات رئيس أركان الجيش التركي «يسار بونيو كانيت» الذي يرى أن زيارة أردوغان المهمة إلى واشنطن تكمن في إعطاء الضوء الأخضر لتنفيذ عملية عسكرية عبر الحدود من عدمها.ما يقلق واشنطن يختلف عما يقلق تركيا، فاهتمام الولايات المتحدة حاليّاً هو ملف الإرهاب في العراق وملف الخيار العسكري ضد إيران، بينما تهتم تركيا بإقناع الكونغرس الأميركي بعدم فتح ملف الأرمن حاليّاً وتأجيله حتى عام 2008. معضلة قادة كردستان أنهم منقسمون بين خيار السياسة والقوة وبين ضغوط الشارع السياسي الكردي على الجانبين، مما دفع الرئيس طالباني إلى أن يقع في زلة اللسان عندما قال في أحد مؤتمراته «إن تسليم قادة حزب العمال الكردستاني لن يكون إلا حلماً» ومن جهة أخرى تنفي حكومة كردستان العراق وجود أي مكاتب لمتمردي حزب العمال الكردستاني في المنطقة التي تخضع لسيطرة حكومة الإقليم.تلك الازدواجية السياسية المتناقضة لا تخفي حقائق الأمور على أرض الواقع، وإن تجاوز الوعورة الطبوغرافية أمر سهل غير أن الوعورة السياسية في قضية معقدة كالقضية الكردية بحاجة إلى واقعية سياسية تستوعب المصالح التاريخية لشعوب المنطقة ودولها من دون استثناء أو تعال قوميّ في عصر ينادي بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والإثنيات.* كاتب بحريني