بوش في براغ... أو فساد صورة الرئيس المنشق
لن ينجح جورج بوش الآن، وقبل أقل من عامين على رحيل إدارته من البيت الأبيض، في أن يعيد إنتاج صورة رئيس القوة العظمى الحريص على نشر الحرية وحقوق الإنسان، أكثر من اهتمامه بمصالح آنية كفلتها التحالفات مع نظم سلطوية صديقة لعقود طويلة.في السابع من الشهر الجاري التقى الرئيس الأميركي جورج بوش في العاصمة التشيكية براغ بمجموعة عالمية من دعاة الديموقراطية وحقوق الإنسان، وأعاد في وجودهم التأكيد على التزام الولايات المتحدة بدعم التحول نحو الديموقراطية ونشر الحرية في أرجاء المعمورة المختلفة. خلال اللقاء تطرق بوش، وفقاً للبيان الرسمي الصادر عن البيت الأبيض، إلى عدد من الحالات العربية من بينها مصر والسعودية، وشدد على أن العلاقات الإيجابية والواسعة مع هاتين الدولتين تسمح للولايات المتحدة بالضغط عليهما للقيام بإصلاحات ديموقراطية، وتمكن من تحمل التوترات الناجمة عن اختلاف وجهات النظر حول مسار وسرعة الإصلاح.والحقيقة أن حديث بوش عن الديموقراطية والحرية لم يكن له أن يأتي وإدارته في لحظة أسوأ من اللحظة الراهنة، سواء من حيث انعدام المصداقية الأخلاقية أو وضوح الهوة الفاصلة بين القول الخطابي والفعل السياسي الواضع لعموميات ووعود الأول محل التنفيذ. أما انعدام المصداقية فلا يقتصر فقط على ممارسات السلطات الأميركية المنتهكة لحقوق الإنسان في العراق وأفغانستان وغوانتانامو، بل يتعداها إلى مساندة إدارة بوش لنظم حكم صريحة السلطوية (في عالمنا العربي وخارجه)، في حين تحاصر حكومات منتخبة ذات شرعية ديموقراطية (أيضاً بين ظهرانينا وخارجها) وفقاً لحسابات المصلحة ولثنائيات الصديق-العدو في منظومة العلاقات الدولية. من جهة ثانية، تبدو الآن الهوة الفاصلة بين خطاب إدارة بوش المتواتر حول الديموقراطية وما تتبعه من سياسات فعلية خاصة في العالم العربي الإسلامي، على نحو من العمق يبرر الدفع بانفصام تام داخل الإدارة بين المعلن والمنفذ. صحيح أن مساحة التناقض هذه وما تنطوي عليه من محدودية فاعلية وعدم انتظام ميزات الضغوط الأميركية باتجاه إدخال إصلاحات ديموقراطية في عدد من الدول العربية والإسلامية بين الحادي عشر من سبتمبر 2001 ونهاية 2005، لكن الولايات المتحدة جُردت من القدرة على الاستمرار في ممارسة حتى مثل هذه الضغوط غير المنتظمة، مع استمرار فشل مشروعها في العراق وانكشاف حاجتها الماسة الى حلفائها من العرب والمسلمين للتعامل الاحتوائي مع تنامي الوزن الاستراتيجي لإيران (الحصيلة الجيو استراتيجية الرئيسية للمغامرات البوشية في الشرق الأوسط).مقاربة إدارة بوش اليوم إلى مصر أو الأردن أو أوزبكستان، وهي دول حليفة ضغطت الولايات المتحدة على حكوماتها السلطوية خلال السنوات الماضية لإنجاز إصلاحات فعلية موظفةً لثقلها الدولي، كقوة عظمى، ولدعمها الاقتصادي والعسكري المباشر لها، ترتكز قبل كل شيء على تأمين تعاونها (الدول الثلاث) الاستراتيجي والعسكري وتنحي جانباً مسألة الإصلاح استجابةً لمطالب الحكومات. انقلب النظام المصري منذ نهاية عام الانتخابات 2005 وبقمعية واضحة على دينامية الحياة السياسية التي مكنت المعارضة من الاستحواذ على ربع مقاعد مجلس الشعب وحدت من فعل الأجهزة الأمنية المنتهك لحقوق الإنسان، ولم تحرك إدارة بوش ساكناً، بل أثنت أكثر من مرة في العام الماضي على خطوات مصر الثابتة نحو الديموقراطية! وتبدو ملامح ذات التراجع عن الإصلاح أو المراوحة في ذات المواقع السلطوية دون تغير، جلية واضحة في الأردن وأوزبكستان، فالولايات المتحدة تغض من الطرف وتبلور من اللامبالاة وازدواجية المعايير سياسة يومية تفرغ كلمات من شاكلة الديموقراطية والإصلاح والتحول من مضامينها وتستهين، بلا أخلاقية فجة، بفعل دعاة الديموقراطية الحقيقيين من معارضات وطنية ومنظمات مجتمع مدني.لن ينجح جورج بوش الآن، وقبل أقل من عامين على رحيل إدارته من البيت الأبيض، في أن يعيد إنتاج صورة رئيس القوة العظمى الحريص على نشر الحرية وحقوق الإنسان أكثر من اهتمامه بمصالح آنية كفلتها التحالفات مع نظم سلطوية صديقة لعقود طويلة، تلك الصورة التي صاغها خطاب تنصيبه الثاني والحديث المتكرر عن رئاسة أميركية تنشق عن منطق «الاستقرار قبل كل شيء» وذهبت بها أفعال إدارته أدراج الرياح.باحث مصري في مؤسسة «كارنيغي للسلام العالمي»– واشنطن.