شهيد الأنابوليس
يقبل الإنسان الفلسطيني أن يُقتَل برصاص الاحتلال والعدوّ الإسرائيلي، ويَقبل أن يعيش أكثر من نصف قرن في متاهات الضياع السياسي والشتات العربي والعالمي، ويقبل أن يكبل بأنظمة استبدادية عاش بين أنيابها مضطراً، ولكن ما لا يمكنه أن يستوعبه ويقبله هو أن يموت برصاص الإخوة «الأعداء»، وأن يسقط مضرّجاً بدمه تارة باقتتال فلسطيني – فلسطيني وتارة أخرى برصاص الأمن الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بحجّة الحفاظ على الأمن.من هنا كانت ضريبة الدم المجاني هذه المرة هي التي دفعها شهيد الخليل شاب فلسطيني خرج ضمن العشرات محتجاً على مؤتمر أنابوليس من دون أن يدرك ماهية هذا المؤتمر؟ وأين إيجابياته وماهية أخطاره وتحدياته؟ فكل ما فهمه هذا الشاب هو ذلك التحريض الأعمى من الطرف المعارض للمؤتمر، والذي يتحمّل مسؤولية تهييج الشارع الفلسطيني لمجرّد عزله عن الوفد الرسمي، بسبب مواقفه المطلقة للرفض، ونتيجة الانقلاب الذي تمّ بين طرفين ائتلافيين في السلطة. وبغض النظر عن تباين وجهات النظر والاختلاف بين الإخوة المتقاتلين بقسوة وقوة في قطاع غزة، وبغض النظر عن مدى الاختلاف العميق في رؤية كل جانب لكيفية وآلية معالجتهما للأزمة الفلسطينية والصراع التاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن نتائج ذلك الاختلاف العميق انعكست على الوعي العام للشارع الفلسطيني وارتباكه في استيعاب ما ينبغي فعله إزاء أي حدث وتحوّل خطير في مسار القضية الفلسطينية، وهذا ما وجدناه حول عملية تحريك التفاوض والانطلاق بها مجدّداً لكي تجد الأزمة مستقراً جديداً لها بعد أن تجمّدت المفاوضات وقتاً، مما خلق هوّة واسعة للمسألة السياسية المستعصية لزمن طويل. كان على الجانب المحرّض والمعارض لمؤتمر أنابوليس أن يستوعب حقيقة اللقاء من دون الحاجة إلى المزايدة والتصعيد في مواجهات عسكرية خاسرة ولا آفاق لها، بقدر ما هي عملية مغلقة تدور في حلقة مفرغة نتائجها سلبية على معاناة الفلسطينيين وحياتهم. ما يتم رفعه من شعارات مضخمة حول بيع القضية والتنازلات، لا يجوز أن يضلل رجل الشارع الفلسطيني، خاصة الجيل الشاب المفعم بالحماس والناقص للرؤية والتجربة والعمق، لهذا كان الدفع بالناس إلى الشارع ورفض المؤتمر، لعبة سياسية فئوية حزبية أكثر منها فلسطينية وواقعية ووطنية، تناسب أهمية المؤتمر كخطوة إيجابية لتحريك عملية السلام والدفع مجدّداً بعملية التفاوض الصعبة والثنائية نحو آفاق جديدة، فما فعلته الوفود العربية من مواقف كانت واضحة إزاء حق الفلسطينيين بقيام دولتهم المجاورة للدولة العبرية بحقوق متكافئة وعادلة يقبلها الطرفان ووفق الشرعية الدولية، من دون أن تكون الولايات المتحدة الطرف الوحيد المراقب والمعني بالمفاوضات، حتى إن كانت واشنطن مفتاح هذه المبادرة التاريخية بين الطرفين.من ذهبوا إلى المؤتمر لم يتّخذوا قراراً بالتفريط ولا التنازل ولا البيع والشراء، إنما وضعوا أجندة للحوار العسير وترتيب أولوية الملفات، كملف الحدود واللاجئين والقدس، وبالرغم من معرفة المعارضين لطبيعة مؤتمر أنابوليس، بأنه مؤتمر ليس إلا لترتيب أوضاع التفاوض والملفات، حيث كان واضحاً من خطب الطرفين أنّ لدى كل واحد منهما مشروعه الخاص ومصالحه وحقوقه، وكانت خطبة أولمرت واضحة بحق إسرائيل وهي أن تكون دولة لليهود، إذ أثارت حواراً ساخناً لمعنى ذلك المفهوم والطرح، خاصة لدى عرب 48 في إسرائيل، الذين قرأوا الخطاب من منطلقاتهم ومعاناتهم بعنصرية الطرح وتهميشهم على المدى البعيد، إن لم يكن تهجيرهم ببطء إلى الدولة الفلسطينية القادمة مقابل ترحيل اليهود من مستوطنات الضفّة والقطاع، وستكون ورقة للمناورة المعقدة مثلما هي ورقة القدس كملف سيتقاسمه الطرفان بتشدد إلى أن ينتهي الطرفان باقتناع أن القدس ستوزع بين ثلاثة أطراف، خاصة أن الجزء القديم من المدينة بطابعه الديني سيخضع لإدارة دينية عالمية، وهو أحد السيناريوهات المحتملة بينما يتقاسم الطرفان القدس وفق الوضع الحالي فينسحب الإسرائيليون من القدس الشرقية منهين بذلك وضع الاحتلال الذي نتج عن حرب 1967. فلماذا غامرت المعارضة بحياة الشباب وتهييج الشارع وهي تدرك أن المؤتمر لم يكن إلا ترتيبا للتفاوض والانطلاق، فكان ثمن هذا التحريض والتشدّد شابا فلسطينيا سقط شهيداً على قرابين مذبح أنابوليس، في وقت كان بإمكان رجال الأمن في السلطة الفلسطينية إظهار ولو جزء بسيط من ديموقراطيتها الهشة وإظهار ضبط النفس؟! فقد كانت التظاهرات لاتزال تحت السيطرة، غير أن المشكلة الكامنة في الطرفين هي سيادة روح العداء والتوتر الشديد الناجم عن الاقتتال الأخير في غزة بين «حماس» و«فتح» فكان على شهيد أنابوليس أن يدفع ضريبة التشنّج الأمني والسياسي في الشارع الفلسطيني.* كاتب بحريني