سيادات وسادة

نشر في 23-10-2007
آخر تحديث 23-10-2007 | 00:00
 موفق نيربية

مفهوم السيادة الوطنية يتعارض أحياناً مع مفهوم «سيادة الفرد»، وهذا الفرد هنا هو المواطن الذي يجب احترام فرديّته وتطويرها بديلاً عن الذوبان في القبيلة أو العشيرة أو الرفاق في العقيدة أو أي نوع من أنواع العصبيات القديمة، التي تغدو عصبويات ما لم يجر تكييفها مع متطلبات العصر ومفاهيمه.

كان «سيّد القوم» يحمل علامات فارقة في سلوكه وكلامه تجعل منه نبيلاً يتمسّك القوم به وبسيادته، إلاّ أن الإحساس بتلك السيادة قد تمّ توزيعه في ما بعد، وبقيت آثار الشكل القديم في الحكايات... إلاّ في بعض الأقاليم، حيث ما زالت حيّة وقوية وفعّالة، ومتحوّلة غالباً في الشكل وشيء من المضمون.

هنالك حديث مختلف الآن عن «السيادة الوطنية»، وعن «سيادة الشعب»، أو عن «سيّد» للوطن أو الأمة أو المقاومة، وعن «سيادة الفرد» أيضاً... وكلّ من منبع قد يتصّل أو ينفصل.

فالسيادة الوطنية -من حيث هي سيادة - تتفرع من الاستقلال، وتتعلق بالحدود وانفراد الدولة المعنية وحكومتها مرجعاً للقرارات والقوانين والأنظمة، ومديراً وحيداً لشؤون رعاياها. ومن حيث هي وطنية ترتبط بالهوية، وبالخصوصية التاريخية والثقافية المتصلة إلى الخصوصية القومية، وبالجماعة البشرية المعنية بمقدار حريّتها ودور إرادتها، وهي ليست تماماً تلك الوطنية التي تعني حبّ أرض الآباء والأجداد. عن هذه الأخيرة قال صامويل جونسون منذ القرن الثامن عشر إنها «الملجأ الأخير لأيّ وغد»، ولم يعرف أحد تلك الظروف التي جعلته ينطق بتلك الشتيمة المقذعة، في حين كان معروفاً موضوع جملته المأثورة الأخرى «لا يمكن لشعب أن يكون عظيماً إذا تخلّى عن الاستقامة في أخلاقه»، إذ قالها في معرض حديثه عن الشعب البريطاني وسلوكه في مستعمرته الأميركية الكبيرة.

«الوطنية» الأولى هي «القومية»، التي لا يستعملها العرب في حديثهم عن الدولة «الصغيرة» لخوفهم من أن تُفهم اعترافاً بقومية جزئية سورية أو لبنانية أو مصرية يخشون نفيها للقومية العربية الأكبر، وهنا تكون الترجمة بعيدة عن الدقة، تحت ضغط الشروط المحلية والإيديولوجيات الخانقة. «الوطنية» الثانية أكثر انسجاماً في معناها وأكثر توفيقاً في الترجمة، منذ قام أحدهم بنحتها في زمن ما قبل أكثر من مائة عام، مع كلمة «الوطن» العربية الذي هو البيت أو المسكن أو المرابع. لذلك أخذت الدولة القومية اسم الدولة الوطنية، فأصبح التراب سابقاً على الإنسان، وفقدت مضمونها العصريّ المتحرّك المؤّسس على المدنية والديموقراطية، وافتقدناها الآن، في العصر الذي ابتدأت فيه بعض عناصرها بالتحلّل مع تقدم العولمة.

هذا كله مجرد مقدمة طويلة لإشارة مختصرة إلى علاقة مفهوم السيادة الوطنية بأفراد الشعب المعنيّ، وتعامله معهم ضمن مفهوم «الرعايا» أو المواضيع أو الذوات. لا ينتقص هذا من قيمة السيادة الوطنية وضرورتها بالطبع، ولكنه يُبقيها ناقصة ما لم تتداخل مع المفاهيم الحديثة الأخرى، التي تعكس غربتنا أو تأخّرنا عنها غربتنا أو تأخّرنا عن العصر، وهذا أمر لا بدّ من تفهّمه.

من ذلك مفهوم «سيادة الشعب» أحد الأحجار الأساسية والأولى في مفهوم الديموقراطية. وهذه تُعنى بالشعب من حيث هو مجموع أفراد وجُماع إرادات وأحوال في الوقت نفسه، يجري التعبير عنها في انتخابات مباشرة أو غير مباشرة لتأتي الحكومة تعبيراً عن إرادة أغلبية هذا الشعب وأداة لتنفيذ البرنامج المعبّر عن هذه الإرادة. يُمكن للسيادة الوطنية أن تُعنى بسيادة الشعب من حيث إرادته الجمعية، ويُمكن أن تلتبس عند عزلها عنه من حيث يتألف من أفراد أحرار متمايزين، وسادة. إذاً، السيادة الوطنية (بل القومية) تتعامل مع رعايا، وسيادة الشعب تتعامل مع أفراد (بل مواطنين).

فمفهوم السيادة الوطنية يتعارض أحياناً مع مفهوم «سيادة الفرد»، وهذا الفرد هنا هو المواطن الذي يجب احترام فرديّته وتطويرها بديلاً عن الذوبان في القبيلة أو العشيرة أو الرفاق في العقيدة أو أي نوع من أنواع العصبيات القديمة، التي تغدو عصبويات ما لم يجر تكييفها مع متطلبات العصر ومفاهيمه. في مفهوم «سيادة الفرد» يجري التعامل مع الشعب كجماعة مكونة من أفراد مستقلين، ترتبط بالمواطنة، وتلتزم بحكم القانون الذي يحترم شخصية الإنسان وحقوقه وواجباته، ويربط الجميع بعقد اجتماعي موثّق في دستور يضمن الحرية والمساواة، ويؤمّن العدالة عند تعارضهما.

وتتيح لنا لغتنا أن نمرّ على سيادة أخرى لفرد آخر، يكون فيها واحداً فوق الشعب، لا متعدداً بعدد مواطنيه. يرى بعضهم فيه راعياً للرعية ومانحاً للأعطيات، قائداً نسيج وحده، سيداً للمقاومة أو للوطن أو للشعب، يتعالى فوق المجتمع المدني ويمحوه قبل تحوّله إلى قوة تمدين غير قابلة للتراجع، ويعود به إلى سنواته الأولى وتركيبته البدائية التي ينسجم فيها مع الحاجة إلى قائد واحد في معاشه بين أدغال الغابة أو كثبان الصحراء، وإلى لسان واحد وعين واحدة ودماغ واحد، وهذا كله في زمن الحاجة الملحة إلى الفرد المواطن السيد والشعب السيد، جوهر الوطن السيد... على ذاته وحسب.

* كاتب سوري

back to top