جحيم الصومال الأبدي

نشر في 19-11-2007
آخر تحديث 19-11-2007 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت يتألف المحرك الرئيسي للصراع الداخلي في الصومال من تركيبة ملتهبة من الدين والسياسة والخصومات العشائرية، وفي مقديشيو يُـقتَل المدنيون كل يوم، ولا تنقطع الهجمات بالقنابل على جوانب الطرق أو بمدافع الهاون، وتستهدف هذه الهجمات الساسة والصحافيين. ولكي يزداد الطين بلة فقد عانت البلاد هذا العام جفافاً وفيضانات.

كانت هذه التركيبة من انعدام الأمن والكوارث الطبيعية سبباً في نزوح أعداد هائلة من البشر وأسفرت عن معاناة بلغت حداً مأساوياً مؤلماً، فطبقاً لآخر تقديرات الأمم المتحدة فرّ نحو أربعمئة ألف، أو ما يقرب من ثلث سكان مقديشيو من المدينة.

مع كل ذلك، نادراً ما تحتل أخبار الصومال العناوين الرئيسية، وهذا يعكس جزئياً استحالة جمع الأخبار. ذلك أن الصحافيين الأجانب يغامرون بالدخول إلى البلاد - فمن الصعب والخطير إلى أقصى الحدود بالنسبة إليهم أن يعملوا داخل الصومال -، كما أن المراسلين المحليين يتعرضون للمضايقات والتحرشات من قِـبَل السلطات، وحتى حين تتوافر الأخبار، فقد أصبحت قدرة العالم محدودة على استيعاب الأنباء السيئة والمحزنة من منطقة أخرى ساخنة من العالم.

منذ شهر ديسمبر الماضي تحولت الصومال إلى بلد يخوض حرباً أهلية في الواقع الفعلي للأمر، ولقد ظلت الحكومة العلمانية بدعم من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، علاوة على تعزيزات عسكرية من اثيوبيا، تحارب المتمردين من «اتحاد المحاكم الإسلامية»، وهو عبارة عن مجموعة متهمة بإيواء الإرهابيين المنتمين إلى تنظيم القاعدة، والتي يحصل زعماؤها على الدعم من إريتريا.

الحقيقة أن غياب القانون والأمن يجعل من التوصل إلى حل سياسي أمراً شبه مستحيل، فحين أراد شيوخ القبائل والوفود المحلية الاجتماع في مقديشيو في إطار مؤتمر للمصالحة، أرغمتهم الظروف الأمنية على تأجيل المؤتمر لأشهر عدة (رغم أنهم حين اجتمعوا بالفعل، وبأعداد كبيرة ولمدة طويلة، لم يتوصلوا إلى أي نتائج تستحق الذكر).

منذ وقت غير بعيد عجزت طائرة تحمل مبعوث حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة عن الحصول على حق الهبوط في بايدوا (مقر البرلمان الصومالي)، وفي بعض الأحيان يرفض الطيارون حمل الأجانب على طائراتهم إلى مقديشيو، وذلك بسبب الخطورة الشديدة، وتحيط الظروف الأمنية الخطيرة نفسها بعمليات تسليم معونات الإغاثة؛ ففي زيارة قام بها فريق تابع للجنة الإنقاذ الدولية اخيراً إلى شمال الصومال، وكنت من بين أفراد هذا الفريق، لتقييم الاحتياجات الإنسانية هناك، أنفق الفريق من الوقت والجهد والمال على القضايا الأمنية أكثر مما أنفقه على تفقد الآبار، وتقييم الحاجة إلى المراحيض، على الرغم من الافتقار الشديد إلى الماء ووسائل الصحة العامة هناك.

وعلى مسافة 25 ميلاً من الطريق بين مدينتي كيسمايو وجيليب الجنوبيتين، هناك ما لا يقل عن 35 نقطة تفتيش مأهولة برجال مسلحين يأخذون من خمسين إلى مائتي دولار أميركي من المسافرين العابرين، وفي البحر تعمل القرصنة على قطع المساعدات القادمة بالسفن على نحو خطير.

وأذكر هنا حادثة وقعت في جنوب الصومال، وتوضح بقوة كيف يتسبب انعدام الأمن في إعاقة أعمال الإغاثة، فبينما كان فريق التقييم في مدينة ماراري، تحول مشهد عادي لصديقين في العشرينات من عمرهما يتناولان طعام الإفطار إلى مأساة كبرى، حين تناول أحد الفتيين بندقية الكلاشينكوف بإهمال فانطلقت منها رصاصة عن طريق الخطأ لتصيب صديقه وتقتله.

كان الفتيان من العشيرة نفسها، ولكن من بطنين مختلفين لسوء الحظ، والإجراء المعتاد في مثل هذه الحوادث أن يقتل أهل الضحية شخصاً من المنتمين إلى البطن الآخر من العشيرة، وأمضى شيوخ العشيرة من البطنين أربعة أيام في التفاوض من أجل التوصل إلى حل أقل دموية، ثم اتفقوا في النهاية على دية مقدارها مئة ناقة ما يعادل سبعة آلاف دولار أميركي تدفع كتعويض لأهل القتيل، ولكن طوال الأيام الأربعة تلك أصبح العمل في المستشفى المحلي (والذي تديره منظمة دولية غير حكومية) متقطعاً، حيث قرر العاملون بها من المنتمين إلى أهل مرتكب الحادثة عدم الذهاب إلى المستشفى لممارسة أعمالهم، خشية أن يستهدفوا من قِـبَل العائلة الأخرى في عملية قتل انتقامية.

قد يكون من الصعب بالنسبة إلى الأجانب عن البلاد أن يتفهموا المعضلة الناجمة عن تلك الحادثة، إلا أن نجاح الشيوخ في تفادي العنف يشكل نموذجاً للحكم الرشيد يستحق الإعجاب.

كم سيكون جميلاً أن يتم اللجوء إلى مثل هذه الممارسات في التعامل مع الاغلبية العظمى من المشاكل التي تجتاح الصومال، والحقيقة أنه في ظل هذا النموذج الواضح للدولة الفاشلة، قد تشكل حكمة الشيوخ الخيار الأوحد للتعامل مع هذه الورطة التي خلقها انعدام القانون والتي أمسكت بخناق الدولة منذ رحيل الديكتاتور سياد بري في عام 1991.

إن تجاهل الموقف في الصومال، وعدم محاولة ترسيخ القانون والنظام ليس من الخيارات المتاحة بأي حال من الأحوال، ذلك أن الطائفتين الرئيسيتين المتحاربتين في مقديشيو تحصل إحداهما على الدعم من اثيوبيا، والثانية تدعمها إريتريا، وبسبب النزاعات الحدودية المعلقة بين هاتين الدولتين وهما من بين أفقر الدول في افريقيا والتي أدت إلى حرب استمرت من عام 1998 إلى عام 2000، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى من الجانبين، وتسببت في انتشار أعمال العنف والخصومات في المنطقة، فإن اشتراك الدولتين في الحرب الأهلية الدائرة في الصومال بالوكالة من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى عواقب وخيمة على القرن الافريقي بأكمله.

* أنـّا هوسارسكا ، كبير مستشاري التخطيط والسياسات لدى لجنة الإنقاذ الدولية

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top