بدأت مع مارون النقاش عام 1847 أين ومتى قُدمِّت أوّل مسرحية عربية؟

نشر في 05-11-2007 | 00:00
آخر تحديث 05-11-2007 | 00:00
No Image Caption

أخرج الفنان مارون النقّاش أول مسرحية عربية عام 1847. يجمع الدارسون على أن هذهِ المسرحية، المستوحاة من مسرحية «البخيل» لموليير، تشكّل الولادة الحقيقية لفن المسرح في العالم العربي. إلاّ أن سيرة النقّاش ورحلاته التجارية وإقامته لفترات طويلة في سوريا ومصر وإيطاليا أثارت الكثير من الجدل حول «المكان» الذي عرضت فيه هذهِ المسرحية وحول أعمالٍ له سبقت هذا العرض. هنا محاولة لإلقاء الضوء على عددٍ من المسائل التي أثارها هذا الجدل.

عند المدخل الشرقي لما يسمّى الآن بـ «سوق القماش» والذي يُطلق عليه بعضُ المسنّين من الذين لا يزالون هنا «سوق البازركان» كانت عائلة النقّاش تسكنُ بمحاذاة عائلتي «صاصي» و«دبّانة» اللتين ظلتا مقيمتين في هذا الحيّ من مدينة صيدا القديمة (في جنوب لبنان) حتى سنوات متأخّرة. على الرغم من أن أحداً لن يجزم بحدود البيوت التي تداخلت معالمها بعد أن هجرها سكّانها وأُدخلت عليها (باستثناء قصر «دبّانة» الذي شُيّد في أيام فخر الدين المعني الثاني) تعديلاتٌ عشوائية ـ على الرغم من هذا، بامكاننا تبيّن السلالم الضيّقة المُفضية الى باحات ووحدات سكنية منفصلة يحتلها مهجّرون أو جعلت مستودعات للمتاجر التي ضاقت بها السوق.

من خلال أحد هذهِ السلالم التي تآكلت أطرافها وازدادت حجارتها تراصّاً تصلُ إلى بهوٍ يفاجئك اتساعه بين غرفٍ رُصفت مستقلة الاّ اثنتين منها أزيلُ الحائط بينهما لتتحولا الى قاعة مستطيلة سيقول لنا صديقنا المخرج المسرحي عادل شاهين وهو يتأمل في المساحات الموزّعة بين الغرف والممّر الرئيسي:» لعلّ مارون النقاش جعلها مسرحاًّ!». بالطبع، لم يكن الجزم بذلك ممكناً. فالنقاش غادر منزله هذا مع عائلته في الثامنة من عمره. وليس في المراجع التي نقلت مراحل من سيرته الفنيّة ما يؤكّد تردّده الى صيدا لمثل هذهِ الغاية. الا أن ما يقوله الدكتور شاهين سيبدو افتراضاً مقبولاً إذا توقفنا عند مرحلةٍ من حياة النقاش بين مُغادرة عائلته الى بيروت وسفره الى الاسكندرية والقاهرة وإيطاليا. هذه المرحلة (وهي ليست قصيرة) لا تتطرق إليها الدراسات التي تناولت حياة النقاش الاَّ لماماً وفي مجالات لا تُبيّن ميوله الفنية المبكّرة التي يشير إليها أخوه نقولا النقاش بوضوح في «أرزة لبنان». وبالاستناد الى هذا المصدر، بالاضافة الى ما ورد في «المسرحية في الأدب العربي» لمحمد يوسف نجم، و»الآداب العربية في القرن التاسع عشر» للويس شيخو، و»المسرح في الوطن العربي» لعلي الراعي، ومقالتين لزكي طليمات وفؤاد إفرام البستاني ـ بالاستناد الى هذه المصادر يمكننا أن نوجز هذهِ المراحل الأساسية التي وردت من سيرة النقاش الذي كان بإجماع الدراسين أول من قدّم المسرح كفنٍ قائم بذاته (بالمفاهيم الغربية للمسرح) في العالم العربي.

رائد المسرح

تركت عائلة النقاش مدينة صيدا في العام 1845، أي بعد ثماني سنوات من ولادة رائد المسرح مارون النقاش. غير أن صِلات العائلة لم تنقطع بهذهِ المدينة التي كانت في أوائل القرن الماضي مركزاً تجارياً وثقافياً أقام فيه عدد من التجّار والرحّالة.

كان والد مارون النقاش «ذا يسارٍ وجاه» كما يذكر الرحّالة الانكليزي دافيد أركيوهارت « وقد غادر الى بيروت حرصاً على ازدهار تجارته». وكان مارون النقاش، كما يخبر أخوه نقولا: «محبّاً للعزلة، مولعاً بالآداب والعلوم... أتقن الكتابة والقراءة العربية، وتعلّم التركية والايطالية والفرنسية. الا أنه آثر أن ينصرف الى التجارة التي قام في سبيلها برحلاتٍ...» يذكر منها حلب والشام، ورحلة الى طرطوس (في العام 1845) التي مكث فيها ثمانية أشهر كان يعاني خلالها «الحزن الشديد» و»تجاهل الناس لجهاده في سبيل الفن». في عام 1846 سافر النقاش إلى الاسكندرية والقاهرة ثم إلى ايطاليا.

أما مسرحيته الأولى التي استوحت مسرحية «البخيل» لموليير وحملت اسمها فقدّمها، كما يذكر أخوه نقولا، في أواخر سنة 1847. وفي أواخر 1849 قدّم مسرحيته الثانية «أبو الحسن المغفّل أو هارون الرشيد» التي دعا إليها «نخبة من رجال الدولة العثمانية» ويذكر الرحّالة الانكليزي أركيو هارت أنه شاهد هذهِ المسرحية في بيت النقّاش في 13 كانون الثاني 1850. كما يذكُر أن النقّاش «بعد هذهِ المسرحية والفصل المضحك الذي تخلّلها، حصل على فرمان بإنشاء مسرحٍ له أقيم بالقرب من بيته خارج السور».

«وقد تحوّل هذا المسرح الى كنيسةٍ بعد وفاته عملاً بوصيته، واشتراه القاصد الرسولي» (أرزة لبنان). «ولعلّ هذهِ هي كنيسة السانتا المعروفة اليوم في حيّ الجميزة على طريق النهر القائمة تنفيذاً لوصيته» (فؤاد أفرام البستاني: مقالة بعنوان أول مسرحية باللغة العربية» نشرت في آذار 1948 في مجلة الشراع). وفي العام 1853 قدّم النقاش مسرحيته الأخيرة «الحسود السليط» على هذا المسرح.

حي الجميزة

يتبيّن لنا من خلال هذهِ السيرة أن النقّاش قدّم مسرحياته الثلاث بين 1847 و1853. الاّ أنّ النقاش يشير ـ كما قدّمنا ـ الى «حزنه وجحود أبناء وطنه وتجاهل فئةٍ منهم لجهودهِ في سبيل فنّه» ـ خلال إقامته في طرطوس التي سافر إليها في التاسع عشر من أيلول 1845 ولم يمكث فيها أكثر من ثمانية أشهر. مما يجعلنا نظنّ أن تجربته المسرحية بدأت، وإن بأشكالٍ بسيطة وغير مكتملة، قبل أن يقدّم «البخيل» في بيته في حيّ الجميزة. هذا بالإضافة الى أن جميع الدراسات التي تناولت سيرة النقاش تكاد تهمل المرحلة التي يُفترض أن تكون قد تشكّلت خلالها اهتماماته المسرحية والأدبية والفنية بين الثامنة عشرة والتاسعة والعشرين من عمره.

في هذه الفترة كانت صيدا تعجّ بالجاليات الإيطالية والفرنسية التي أقامت غالباً في الأحياء القريبة من مرفأها والمتاخمة لحيّ البازركان (حيث لا يزال خان الرز وخان الإفرنج). كما ازدهرت في الفترة نفسها طبقة متوسطة ضمّت «التجّار وأرباب الصناعة والعلماء» اتخذت لها في مداخل صيدا، لجهة المرفأ، استراحات و«مسارح» استقبلت مغنين من مصر وسوريا وقدّمت عروضاً شاركت فيها الجاليات الأجنبية. وقد ظلّت هذهِ الاستراحات، كما يذكر معمّرون، تتنقلُ في المنطقة نفسها حتى منتصف القرن بين حي «القشلة القديمة» و«سبيرو» و«حي البازركان».

كانت صيدا بين عام 1840 وعام 1868 إيالة مستقّلة (حسب السالنامة التركية). وعلى الرغم من التطورات التي أعقبت نفي الأمير بشير الى ايطاليا، اتسعت الحركة التجارية وانتظمت الإدارة على نحو جعلها محطّ أنظار الرحّالة والمستشرقين.

هذا الواقع الاجتماعي والثقافي الذي عرفته صيدا ربّما يعزّز السؤال حول ما ورد على لسان النقّاش خلال إقامته في طرطوس عن جحود أبناء وطنه وعدم تقدير فئةٍ منهم لجهوده في سبيل فنه (أين حاول النقّاش أن يقدّم هذا الفن قبل عام 1847؟) كما يعزّز السؤال حول هذهِ المرحلة التي ظلّت مهملة في الدراسات التي تناولت سيرته وحياته الفنية (هل كانت صيدا، التي شهدت ولادته ونشأته الأولى، من المحطّات التي كان يتردد إليها بعد أن ازدهرت أعماله التجارية في بيروت؟).

بالطبع ليست هذهِ قرائن متلازمة ولكنها على قدرٍ من التناسب لا ينبغي تجاوزه في الحديث عن ولادة فن المسرح في العالم العربي.

back to top