صالح وكنفاني في أمسية حزينة توفيق صالح: الفلسطينيون محبوسون في الخزان
في ظل سخونة الحوادث على الساحة الفلسطينية والخلافات بين أفرقاء السياسة والسلاح، اعتصر الألم الحاضرين في أمسية نقابة الصحافيين المصريين التي خصصت لفيلم «المخدوعون» للمخرج المتميز توفيق صالح.
«المخدوعون» فيلم مقتبس عن رواية «رجال تحت الشمس» للكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، يدور حول ثلاثة فلسطينيين يحاولون الهرب إلى الكويت بحثاً عن المال والاستقرار، ويختبئون داخل خزان صهريج لعبور الحدود العراقية - الكويتية في شهر آب/ أغسطس الحار كأنهم على موعد مع الموت في غياب الحل العربي لقضيتهم.
الموت في صمت خاطب توفيق صالح الحاضرين بالقول: «إن القضية الفلسطينية اليوم أعقد من زمان والفلسطينيين في الخزان ما خرجوش لسه، غسان كنفاني في القصة بتاعته بيقول إن الناس بتموت داخل الخزان في صمت من غير ما تقاوم، أنا ما عملتش كده أنا خليتهم يخبطوا على جدار الخزان». وقال مقدم الأمسية الكاتب والناقد السينمائي محمد بدر الدين: «نحتفل بغسان كنفاني وتوفيق صالح الآن لأنهما أدانا كل من تسبب في نكبة فلسطين بدءا من القيادة المتناحرة العاجزة وسماسرة الحروب والجماهير المستسلمة الخانعة التي فضلت الهرب إلى الخلاص الفردي على مواجهة العدو. أفتتن المخرج الكبير توفيق صالح بهذه الرواية فور قراءته لها. وسعى منذ 1965 إلى إخراجها سينمائياً، مقدماً طلباً رسمياً إلى المؤسسة العامة للسينما في الجمهورية العربية المتحدة ـ الاسم الرسمي لمصر آنذاك. لكن المؤسسة رفضت طلبه وعرضت عليه بدلاً من ذلك، تحويل كتاب «الأيام» لطه حسين إلى فيلم سينمائي فرفض بدوره. بلغت المفارقة ذروتها حين سافر توفيق صالح إلى سورية عام 1970، ليعرض مشروعه على المؤسسة العامة للسينما هناك، فأتته الموافقة. لكنه تلقى كتاباً رسمياً ينصح باستبعاد الخلفية الفلسطينية عن قصة كنفاني. أصرّ توفيق صالح في البداية على الاحتفاظ بعنوان الرواية الأصلي «رجال تحت الشمس» لكن مؤسسة السينما السورية اعتذرت لسبب موضوعي هو أن آخر فيلم من إنتاجها كان يحمل عنوان «رجال تحت الشمس»، وكان محرجاً لها أن تنتج فيلمين متتاليين بالعنوان ذاته، لاسيما أن الفيلم الآخر يتناول أيضاً القضية الفلسطينية. عندئذ بحث توفيق صالح عن عنوان آخر فكان «المخدوعون» ملائماً لرؤيته السينمائية والفكرية». وصف المخرج توفيق صالح رواية «رجال تحت الشمس» لغسان كنفاني بأنها «نص أدبي متميز أعجبت به ووجدت فيه ما يرمز إلى الوضع الفلسطيني. شرعت في كتابة السيناريو تحديدا بعد أيلول الأسود التي رحل عبد الناصر بعدها بأيام. كنت منفعلا تماما مع الحوادث». ويرى صالح أن أكثر المشاهد دلالة وقوة هو ذاك الذي تنزع فيه يد مجهولة سلاح فدائي استشهد قابضاً على سلاحه:» إذا أردنا تحرير الأرض، لابد من معرفة تلك اليد المجهولة التي تنزع السلاح واسترداده مرة أخرى». اختتم صالح كلامه بالقول «إنه فيلم قاس، مرهق. ذلك شأن الرواية أيضاً. رغم أن هوجة سينما الألوان كانت في بدايتها يوم تنفيذ الفيلم، إلا أنني اخترت الأسود والأبيض لكي أعطي الفيلم طابع الوثيقة. غذيت الحوادث بنوع من الفوتو مونتاج حيث تدخلت الوثيقة في نسيج الفيلم. ولأن السياق كله بالأسود والأبيض بدا التداخل بين الواقع والمتخيل إلى حد التماهي». يتذكر توفيق صالح أيضاً تلك البطاقة الشعرية التي افتتح بها فيلمه من قصائد محمود درويش وهي خلاصة تعبير شعبي فلسطيني دارج يقول: «اللي ما إلو وطن ما إلو قبر». يقف توفيق صالح على القمة مع قلّة من مخرجي السينما المصرية والعربية. أفضل مخرجينا وحتى أغزرهم إنتاجاً لن يبقى من أعمالهم المتميزة إلا عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أو اليدين في أفضل الأحوال. أفلام توفيق صالح السبعة وأفلامه القصيرة، وإن لم تتساو قيمة إلا أنها متميزة كلها روحاً ونهجاً وأسلوباً، جادة تتعمق في قضايا حقيقية، مشغولة بأخطر قضايانا الاجتماعية والوطنية والثقافية. إنها الفن الثوري في أدق معانيه وأرقى صوره. أخرج توفيق صالح فيلمه الأول «درب المهابيل» (1955) ثم «صراع الأبطال» (1962) و»المتمردون» (1968) و«يوميات نائب في الأرياف» (1969) و»السيد البلطي» (1969). في 1970 غادر القاهرة الى دمشق تحت ضغوط شتى وأخرج في سوريا «المخدوعون» (1973) أعقبه في العراق إخراج «الأيام الطويلة» فيلمه الأخير.