ذوو الثروات

نشر في 16-11-2007
آخر تحديث 16-11-2007 | 00:00
في العام الماضي تمكن كل من الشخصيات التسع الأكثر ثراءً في الولايات المتحدة من زيادة ثروته بمبلغ يتراوح بين خمسة وتسعة مليارات... أجل، هذه ليست سوى الزيادة السنوية في ثرواتهم، وما يجدر ذكره هنا أن هذه المليارات الخمسة والخمسين، التي جنوها مجتمعين خلال العام الماضي فقط، تتجاوز إجمالي الدخل الوطني لأكثر من مئة دولة.
 بروجيكت سنديكيت كنت أحاول اخيراً أن أشرح لولدي غابرييل، الذي يبلغ من العمر أحد عشر عاماً، الفوارق الفلكية بين دخول الناس.

كان بل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت قد تغلغل إلى وعي غابرييل لأول مرة منذ عامين، حين توليت التقديم لغيتس في مؤتمر ضخم تحت رعاية الحكومة الدانمركية، ومنذ ذلك الوقت افتتن غابرييل بالاحتمالات التي تكاد تكون لا متناهية في جمع ستين مليار دولار.

على سبيل المثال، كلما قلت لغابرييل إن شيئاً ما لا يقدر بثمن (ولنقل لوحة عظيمة في أحد المتاحف)، كان يقول مباشرة «ولكن بل غيتس قادر على شرائها، أليس كذلك؟»، أجل، غيتس يستطيع أن يشتري المتحف بالكامل، ولكنه بعد ذلك سوف يعود ليرد كل التحف إلى المتحف حتى يتمكن كل الناس من مشاهدتها، فما المغزى من الشراء إذاً، ولكن غابرييل لم يقتنع تماماً.

قرر غابرييل أنه إذا لم يتمكن من العمل كلاعب كرة سلة محترف حين يكبر، فإنه يود لو يتمكن من شراء فريق كرة سلة، وباعتباري أستاذاً في الاقتصاد فلم أملك إلا أن أسأله إن كان يدري أن شراء فريق كرة سلة في الاتحاد الوطني يتكلف بين ثلاثمئة إلى خمسمئة مليون دولار أميركي، فأجابني «ولكن بل غيتس يستطيع أن يفعل هذا، يستطيع أن يشتري كل الفرق في الاتحاد الوطني، أليس كذلك؟»، فقلت له «أجل، ولكن إذا ما امتلك بل غيتس الاتحاد الوطني لكرة السلة بالكامل، فكيف يقرر أي فريق منهم يشجع؟»، أدرك غابرييل الفكرة، لكنني أستطيع أن أجزم بأنه لم يقتنع.

إن غيتس ليس الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يشتري بسهولة الفرق الرياضية واللوحات، فقد أظهرت آخر قائمة أصدرتها مجلة فوربس لأغنى الأفراد في أميركا أن أعلى تسعة أصحاب دخول على قائمة السنة الماضية، والذين كان من بينهم حاكم ولاية نيويورك مايكل بلومبيرغ، تمكن كل منهم من زيادة ثروته بمبلغ يتراوح بين خمسة إلى تسعة مليارات أثناء العام الماضي، أجل، هذه ليست سوى الزيادة السنوية في ثرواتهم، وما يجدر ذكره هنا أن هذه المليارات الخمسة والخمسين، التي جنوها مجتمعين خلال العام الماضي فقط، تتجاوز إجمالي الدخل الوطني لأكثر من مائة دولة.

ولكي أضع هذه الأرقام الفلكية في منظورها الصحيح، جعلت غابرييل، بعد إجرائه بعض الحسابات، يدرك أن المرء لكي يكون من بين أعلى تسعة أصحاب دخول في الولايات المتحدة لابد أن يكسب على الأقل مائة وخمسين دولاراً في كل ثانية، بما في ذلك الوقت الذي يقضيه في تناول الطعام أو النوم، وهذا يعني تسعة آلاف دولار في الدقيقة، أو خمسمئة وأربعين ألف دولار في الساعة.

تُـرى كم يجمع أعلى أصحاب الدخول في أميركا من المال، مقارنة بدخل المليار إنسان الأكثر فقراً؟ حسناً، إذا ما تبرع أعلى تسعة أصحاب دخول بمكاسبهم، فإن هذا يعادل نحو دخل ثلاثة أشهر للمليار فردٍ الأكثر فقراً. (غابرييل يعرف بالطبع أن بل غيتس ووارين بوفيت قد تبرعوا بالفعل بعشرات المليارات).

أما عن الأشهر التسعة المتبقية من السنة، فإذا ما علمنا أن دخل الولايات المتحدة يشكل 25% فقط من الدخل العالمي، فمن المنطقي أن نخمن وجود أفراد في غاية الثراء في أماكن أخرى من العالم يمكنهم تغطية هذا الفرق، (يُـعَد المكسيكي كارلوس سليم، قطب صناعة الهواتف، على سبيل المثال، منافساً قريباً من غيتس على لقب الرجل الأكثر ثراءً في العالم).

بيد أنه من السذاجة والغباء أن نتصور أن الأفراد شديدي الثراء يستطيعون بسهولة أن يحلوا مشكلة الفقر في العالم، والحقيقة أن أكثر الأبحاث الأكاديمية جدية تؤكد بقوة أن أفضل ما تستطيع أن تقدمه الدول الغنية لمساعدة المناطق الفقيرة، مثل افريقيا، يتلخص في فتح أسواقها أمامها، وتوفير المساعدات لها في ما يتصل ببناء المؤسسات وإقامة البنية الأساسية.

إن أعظم النجاحات في مكافحة الفقر العالمي كانت على يد الصين والهند، لقد تمكن كل من هذين البلدين من رفع نفسه بجهوده الخاصة، ولكن يبدو أن هذا الأمر أشد تعقيداً من أن أحاول شرحه لولدي غابرييل الآن، وعلى هذا فقد رجعت إلى الرؤية البسيطة التي تبنتها الأمم المتحدة ونجوم موسيقى الروك والتي تصور لنا كيف سيكون الأمر عظيماً لو تبرعنا بالمزيد من الأموال.

تُـرى هل تكون الفوارق الهائلة في الدخول والثروات نتيجة لابد منها للنمو السريع؟ يؤكد التاريخ بصورة عامة أن الإجابة هي «أجل»، فالصين التي حطم أداؤها، في ما يتصل بالنمو الاقتصادي، الأرقام القياسية كلها منذ سبعينيات القرن العشرين، أصبحت على الطريق الآن لكي تحتل المركز الأول على مستوى العالم في التفاوت في توزيع الدخول، فلقد تجاوزت الصين الولايات المتحدة في هذا السياق، وأصبحت تقترب من مستويات التفاوت في أميركا اللاتينية.

إن التوصل إلى حلول منظمة لهذه القضية ليس بالأمر السهل، ذلك أن الكثير من كبار أصحاب الدخول هم في واقع الأمر من كبار المبدعين، وهناك بلدان، مثل المملكة المتحدة، تشجع أصحاب الثروات من الأجانب من خلال التعامل مع دخولهم الاستثمارية على نحو استثنائي، ذلك أنك إن كنت ممن يكسبون خمسمئة وأربعين ألف دولار في الساعة، فلن تستغرق وقتاً طويلاً حتى تتمكن من ادخار ما يكفي لشراء شقة، حتى في لندن.

على أي حال، هناك حدود للضغوط الضريبية التي يستطيع النظام السياسي أن يفرضها على الأثرياء من هذا النوع، إن أياً من التسعة الأعلى دخلاً في الولايات المتحدة يجمع من المال خلال يومين أكثر مما تجمعه هيلاري كلينتون، المرشحة لرئاسة الولايات المتحدة، لحملتها الانتخابية خلال ثلاثة أشهر.

بدلاً من فرض الضرائب الباهظة على الثروة، فإن العولمة تعزز من الحجة المنادية بالتحول إلى فرض ضريبة ثابتة على الدخل (بل والأفضل على الاستهلاك) مع إعفاءات مرتفعة نسبياً، وبعيداً عن المناقشات المعتادة بشأن الكفاءة، فلسوف يكون من الصعب والمكلف على نحو متزايد أن نبقي على هذه الترتيبات المعقدة في ما يتصل بالتعامل مع الضريبة الوطنية.

من المؤسف أن التحرك نحو إصلاحات ضريبية جوهرية ما زال متأخراً إلى الوراء في أغلب دول العالم، وإننا لنتمنى أن ينشأ جيل أبنائنا ليعيش في عالم قادر على أداء وظيفته في ما يتصل بإيجاد التوازن بين الكفاءة والمساواة على نحو أفضل من أدائنا الآن، يقول لي غابرييل إنه سوف يفكر في الأمر.

* كينيث روغوف | Kenneth Rogoff ، أستاذ علوم الاقتصاد والتخطيط العام بجامعة هارفارد، وشغل منصب كبير الخبراء الاقتصاديين سابقاً في صندوق النقد الدولي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top