المنطقة الرمادية

نشر في 27-09-2007
آخر تحديث 27-09-2007 | 00:00
 د. عبدالمطلب فيصل البلام

«الإيمان بالممتزج والمناطق الرمادية بين عناصر الكون يؤدي إلى رؤية عالم آخر واحتمالات جديدة، ويؤدي إلى رؤية عالم موحد ممتزج وديناميكي. تلك الرؤية هي التي تؤدي إلى الإبداع والاكتشاف والاختراع. وأغلبيتنا للأسف لا يملكها».

ما بين منطقة اللون الأسود ومنطقة اللون الأبيض منطقة رمادية يتدرج من خلالها هذان اللونان، لا يرى تلك المنطقة سوى الأشخاص الذين يفكرون خارج نطاق حدود المألوف. وما بين الإنسان ذي الجنس الأسود والإنسان ذي الجنس الأبيض جنسٌ يحمل خصائص وصفات كلا الجنسين، وتكون عملية تحديد جنسه أمراً مستحيلاً. لا يرى استحالة تصنيف ذلك الإنسان سوى الشخص الذي مسح من عقله التفكير العنصري. كذلك ما بين الفلسفة المحافظة والفلسفة الليبرالية فلسفة تجمع المحافظة والليبرالية في الوقت نفسه. ولا يرى تلك النوعية من الفلسفات سوى الشخص الذي يلغي الحدود بين الفلسفات والمعتقدات الدينية. حتى ما بين النبات والحيوان هناك كائن يحمل شكل النبات وبعض الخصائص الحيوانية تجعل الشخص يسأل عن الخط الفاصل ما بين النبات والحيوان.

أكتب هذه الحقيقة بعد أن استمعت إلى قصة حدثني بها أحد الأصدقاء. يقول صديقي إنه في رمضان الماضي استضافه أحد زملائه على إفطار في أحد الشاليهات القائمة في منطقة ساحلية نائية في دولة الكويت. في تلك المنطقة تندر المساجد بشكل عام. كان هناك الكثير من الضيوف المثقفين.

ويكمل صديقي حديثه... بأنه عندما اقترب موعد الغروب، بدأت مشكلة عويصة في البزوغ، حيث بدأ الاختلاف يدب بين الحاضرين على تحديد موعد الإفطار. وبعد نقاش حام... اتجه كثير منهم إلى شخص ادّعى أنه يعرف على يقين الموعد المحدد للغروب، والذي حدده بالساعة السادسة وسبع عشرة دقيقة. ومع اقتراب الوقت من تلك اللحظة المرتقبة، بدأ ذلك الشخص المخول في النظر إلى ساعته، بينما صار بقية الحاضرين ينتظرون منه إشارة في ترقب واهتمام.

يقول صديقي إنه عندما قارب عقرب الساعة بالدنو نحو الدقيقة الـ17 بعد السادسة مساء... سأل أحد الحاضرين هذا المرشد بكل تلهف: «هل حان موعد الإفطار؟»، فرد علية المرشد بكل ثقة: «كلا هناك تقريباً سبع وأربعون ثانية تفصلنا عن موعد الغروب»... مرت بضع ثوان، فسأله حاضر آخر خال أن السبع والأربعين ثانية قد مضت، «هل حان موعد الإفطار الآن؟» فرد عليه: «كلا بقيت 17 ثانية».

يقول صاحبنا إنه كان يسمع ذلك النقاش في عجب، بينما هو ينظر إلى بقية الحضور الذين لم يجرؤ أي أحد منهم على مد يده لتناول الإفطار، وكأنه فعلا هناك لحظة حاسمة تفصل ثانية الغروب عما يسبقها. يقول صديقي إنه وبينما كان الجميع على ذلك. بدأ مرشدنا يعد الثواني المتبقية وهو يقول بصوت عال «خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنتان، واحدة... حان يا جماعة موعد الإفطار». هنا بدأ الجميع في تناول الأكل. بينما بقي صديقي يفكر ويتساءل في نفسه: هل يعقل أنه لا يزال هناك بيننا من يعتقدون بأن هناك فواصل حتمية بين أحداث وأجزاء هذا الكون الهلامي. ألا يعلم هؤلاء المثقفون أن الأرض شبه مستديرة، وأن نور الشمس يختفي تدريجياً من على سطحها المنحني. ألا يعلم هؤلاء أن الغروب حدث مستمر وليس هو بلحظة محسومة.

أقول لصديقي إن تصرف هؤلاء يدل على انتشار نوعية معينة من العقول في مجتمعنا. عقول تعتقد بالحدود بين العناصر والأحداث الكونية. فهي لا تزال تعجز عن رؤية استمرارية الأحداث وتداخلها وامتزاجها بعضها بعض. تلك العقول هي نفسها التي تعتقد أن هناك خطاً فاصلاً بين الخير والشر وبين الجميل والقبيح. ذلك النوع من التفكير هو السبب الرئيسي في عدم قدرة مجتمعاتنا على مزج وخلط معطيات ونتائج الطبيعة لإيجاد وابتكار اختراعات وحلول جديدة. إن التفكير القائم على تجزئة معطيات الكون إلى أجزاء ثابتة، غير القادر على رؤية المنطقة الرمادية بين تلك المعطيات، هو تفكير بعيد كل البعد عن الإبداع والتطوير. فالإيمان بالممتزج والمناطق الرمادية بين عناصر الكون يؤدي إلى رؤية عالم آخر واحتمالات جديدة، ويؤدي إلى رؤية عالم موحد ممتزج وديناميكي. تلك الرؤية هي التي تؤدي إلى الإبداع والاكتشاف والاختراع. وأغلبيتنا للأسف لا يملكها.

* أستاذ بكلية الهندسة - جامعة الكويت

back to top