على كف عفريت

نشر في 02-08-2007
آخر تحديث 02-08-2007 | 00:00
 محمد سليمان

لم يدرك النظام العراقي -على ما أظن- حجم الخطيئة التي اقترفها ونتائجها عندما أباح للعربي دم العربي، وأشعل النار في منزل العائلة، فاتحاً الأبواب كلها للعنف وللانقسام وللطائفية وللأصابع الأجنبية التي تلهو الآن بمصائرنا.

لست مغرما بالسفر ولم أزر من الأقطار العربية سوى المغرب ضمن وفد رسمي رأسه وزير الثقافة المصري عام 1996، واعتذرت عن العديد من الدعوات التي وجهت إليّ ومنها أكثر من عشر دعوات عراقية للمشاركة في «مهرجان المربد» كان آخرها عام 2002، رغم حبي للعراق وأهله وتوقي لزيارة الأرض التي أنجبت شعراءنا الكبار التي انطلقت منها حركة التجديد الشعري في أربعينيات القرن الماضي؛ فهي أرض البحتري وأبي تمام وأبي نواس والمتنبي ونازك الملائكة والسياب والجاحظ وغيرهم.

لكنني كنت ومازلت أرى أن المبدعين، قبل غيرهم، مطالبون بالتصدي للحمق وللقمع وللدكتاتورية، ومسؤولون قبل غيرهم أيضا، عن فضح ومقاومة النظم التي تسحق الإنسان وتهدر آدميته.. والنظام العراقي وعلى رأسه صدام حسين، كان من أشرس هذه النظم التي ابتلي العراق بها.

و«مهرجان المربد» الشعري كان قد تحول في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي إلى مهرجان سياسي وإلى مظاهرة ضخمة لدعم النظام في العراق ومنحه شرعية لا يستحقها وكذلك للتصفيق والتهليل لمغامراته التي وضعت المنطقة كلها على «كف عفريت»، كما يقولون في القرى المصرية.

لم نصدق في البداية الأنباء التي تواترت قبل سبعة عشر عاماً عن غزو العراق للكويت.. الذهول والوجوم كانا يلفان الوجوه، والأسئلة كانت تتقافز من العيون والأفواه عن السبب والغاية والتداعيات. لم يدرك النظام العراقي، على ما أظن، حجم الخطيئة التي اقترفها ونتائجها عندما أباح للعربي دم العربي، وأشعل النار في منزل العائلة، فاتحاً الأبواب كلها للعنف وللانقسام وللطائفية وللأصابع الأجنبية التي تلهو الآن بمصائرنا.

وحتى يومنا هذا لم نستطع إخماد النيران التي أشعلها صدام حسين أو محاصرتها، النار التي التهمت الثقة والانتماء والتراحم، والتي جعلت من الجامعة العربية والعمل العربي المشترك، إلى آخر هذه المسميات، مجرد رايات تنتسب للماضي لقد مسخّنا الغزو وحولنا إلى مجموعة من «الإخوة الأعداء».

وتأمل معي المجازر التي صارت حدثاً عادياً، وخبراً يومياً، وملمحاً من ملامح الحياة العراقية، والمجازر التي تحدث في دارفور، وتلك التي اندلعت بين «فتح» و»حماس» في غزة، والاغتيالات والاصطفافات الحزبية والطائفية في لبنان. لم يعد العربي يثق الآن سوى بالغريب... الأجنبي الذي يحاول بعقلية الجرّاح ومشارطه حل مشاكلنا في العراق ودارفور ولبنان وفلسطين.

وتأمل معي الانقسامات التي اجتاحت حياتنا الإبداعية والثقافية في الأعوام الأخيرة، والرايات التي يرفعها كتابنا وشعراؤنا الشبان الذين أداروا ظهورهم للقضايا الكبرى وفي مقدمتها؛ قضايا الانتماء والوجود والوطن وغيرها، تقليداً لتيار ما بعد الحداثة، وانشغالهم من ثم بالجسد والجنس وتفاصيل الحياة اليومية.

فالجسد صار بديلاً للوطن الذي تبخرت قداسته ودفؤه وخصوصيته، وصار الانشغال به مرادفاً للجمود والتخلف وصارت عبارة «أنا لا أحب بلدي».. عبارة عادية تتناقلها صحفنا، وصار الانتماء للعروبة تاريخاً وشيئاً من الماضي يخص الحالمين والمرضى. والمتابع للإبداع الشعري والقصصي في الأعوام الأخيرة سيلاحظ العدمية التي راجت ولونت معظم كتابات المبدعين الجدد، وسيلمس أيضا ذلك الاصطفاف الفكري والترصد وتآكل التسامح والسعي إلى إزاحة الآخر ومحوه.

في منزل أحد الشعراء المصريين اجتمعنا مساء ذلك اليوم الأسود وكان بين الحضور المستشار الثقافي العراقي، وكان صامتاً وقلقاً وراغباً في سماع التعليق على ما حدث وردود الفعل التي دارت كلها حول الخطأ القاتل لصدام ونظامه والذي سيفتح الباب لجحيم لا حدود له. كنا أسرى خوفين وغضبين هائلين؛ أحدهما، على ما يحدث في الكويت، والآخر، على ما سيحدث للعراق وشعبه وللمنطقة.. «لقد فتحتم الأبواب لأنهار من الدم.. ووضعتم المنطقة كلها على كف عفريت».. كان تعليقنا على الأحداث، وأظننا بحاجة إلى سنوات وسنوات لإخماد النيران وإحصاء الخسائر وإزاحة الدخان الذي يلتف علينا كما أقول في قصيدة لي:

الحرب صارت منزلا أقيم فيه

والدخان أثوابي

خسائري لم أحصها

لأنني لا أحسن العد

ولا أزال مثل علبة معبأ بها.

 

كاتب وشاعر مصري

back to top