مصر في خريف 2007... ضربة جديدة لفُرص التحول الديموقراطي
يبدو المشهد السياسي الراهن في مصر ولأسباب متعددة شديد القتامة، فمنذ انتهاء الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2005، والنخبة الحاكمة آخذة في الانقلاب تدريجياً على مساحات الانفتاح التي صاغها حراك المعارضة بفصائلها المختلفة، وبلغ ذروته بحصد جماعة «الإخوان المسلمين» ثمانية وثمانين من مقاعد مجلس الشعب. تدلل هنا سلسلة القرارات التي مُررّت في 2006 وما انصرم من 2007، خصوصاً التعديلات الدستورية وتمديد العمل بقانون الطوارئ، على ردة النخبة مثلها في ذلك مثل تصاعد معدلات العنف الرسمي تجاه حركات الاحتجاج الشعبي والارتكان إلى منطق العقاب والترهيب السلطوي حين التعامل مع رؤساء تحرير الصحف المستقلة أو غيرهم من المدافعين عن الحريات.وبغض النظر عن المعوقات المُستدامة للتحول الديموقراطي من شاكلة ضعف الطبقة الوسطى وتحالف البرجوازية مع النخبة واختراق شبكات الفساد والإفساد الحكومية لمعظم قطاعات المجتمع، يمكن الإشارة إلى سببين رئيسيين يفسران ما يحدث اليوم في مصر. فمن جهة أولى؛ مازالت النخبة الحاكمة عاجزة عن صياغة رؤية استراتيجية واضحة المعالم لمضمون وكيفية إدارة عملية التحول الديموقراطي. فمن المعروف عن النخب الحاكمة السلطوية وشبه السلطوية أنها لا تتخلى عن خوفها ومقاومتها للتغيير ولا تشرع في إنجاز إصلاحات سياسية جوهرية، إلا إذا تأكدت من إمكان بقائها في السلطة وضمان قدر معتبر من مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، واستطاعت بناء تحالفات مصالح مع عدد من قوى المجتمع الفاعلة المتوقع إفادتها من التغيير. حينما نحلل المواقع التي تحتلها نخبة الحكم المصرية الآن نكتشف أنها تعاني اختلالات حقيقية على هذه الأصعدة جميعها. فإمكان البقاء في السلطة وبالتبعية ضمان المصالح يتهددها شبح غياب الرئيس مبارك وغموض سيناريوهات الخلافة السياسية والرفض الشعبي المتصاعد لأكثرها احتمالاً؛ الانتقال الوراثي. كذلك لم تنجح النخبة في بلورة تحالفات مع المطالبين بالتغيير، بل واستعْدت، بلاعقلانية بادية، القوى جميعها بما فيها تلك المنتمية الى مؤسسات الدولة مثل القضاة وأساتذة الجامعات الحكومية. محصلة هذه الاختلالات هي هيمنة حالة ذعر مستمر من المستقبل بين عناصر النخبة تدفعها الى رفض التغيير والتحايل على ذلك بخطاب باهت حول تدرّجية الإصلاح واحتياجها، أي النخبة، لمزيد من الوقت لإنجازه.تمثل تصدعات المعارضة المصرية وتضارب اختياراتها الاستراتيجية السبب الثاني لقتامة المشهد الراهن. فشلت أحزاب اليمين واليسار والحركات الاحتجاجية، مثل «كفاية»، في التطوير النوعي لفعلها السياسي خلال العامين الماضيين بصورة تتناسب وتحديات عملية التحول الديموقراطي. فواجب المعارضة في لحظات التغيير هو بالأساس الضغط لنقل الصراع مع النخبة الحاكمة إلى مساحات جديدة وصياغة توافق الحد الأدنى بين فصائلها حول جوهر الإصلاحات المرجوة وأساليب ومراحل تطبيقها. ما لبثت قوى المعارضة عاجزة عن تطوير رؤى برامجية واقعية تروم الدفع باتجاه الإصلاح، بل مازالت في مجملها تراوح في المواقع ذاتها من دون تغيير، فمَن بدأ معتمداً على الوجود في الشارع كحركة «كفاية» مازال يدور في جنباته ويفتقد أي إطار للفعل المؤسسي، أما الأحزاب السياسية التي ارتكزت على هامش تمثيلي محدود في المجالس التشريعية وعانت ضعف قواعدها الشعبية فلا تختلف وضعيتها اليوم كثيراً عن هذا التوصيف. إلا أن الأخطر من ذلك إنما يتمثل في التداعيات السلبية للمواجهة الدائرة رحاها اليوم بين النظام وجماعة «الإخوان المسلمين» على رؤى الجماعة ودورها في الحياة السياسية. فمسودة برنامج الحزب السياسي للإخوان التي تداولتها الأوساط المصرية خلال الأسابيع القليلة الماضية تدلل على انتكاسة وتراجع حقيقيين داخل فصيل المعارضة الأكثر شعبية. فالبرنامج يحفل برؤى تتناقض مع مبدأي مدنية الدولة والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين مواطني مصر المسلمين والأقباط، وكلاهما من أسس الإصلاح السياسي، بل والحفاظ على الاستقرار. يدعو الإخوان، على سبيل المثال، إلى استحداث هيئة منتخبة من كبار علماء الدين ينبغي على السلطة التشريعية ورئيس الجمهورية استشارتها لضمان اتساق القوانين مع مبادئ الشريعة الإسلامية وفقاً للمادة الثانية من الدستور المصري الناصّة على إلزامية الشريعة الإسلامية كالمصدر الأساسي للتشريع. يذكر اقتراح تكوين هيئة فوق تشريعية من علماء الدين ذات طابع وصائي في علاقتها بالسلطتين التشريعية والتنفيذية بنموذج ولاية الفقيه في إيران وبغيره من النماذج الثيوقراطية الشمولية التي يصبح بها الدين بمنزلة الحكم النهائي والوحيد في إدارة المجتمعات البشرية. ثم يستبعد «الإخوان» أيضاً ودونما تقدير سليم للعواقب غير المسلمين من المواطنين المصريين من منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء مخلِّين بذلك بمبدأ مواطنة المساواة الكاملة بين عنصري الأمة المصرية المسلمين والأقباط ومنتقصين من حقوق هؤلاء السياسية.تفسر تصدعات المعارضة هذه وتناقضاتها ضعف فاعليتها الشديد وابتعاد المواطنين المصريين على اختلاف مشاربهم عن الانضواء في سياقاتها لدفع الإصلاح الديموقراطي قدماً، وبالتبعية استمرار نخبة الحكم في تضييق مساحات الحراك ودفع البلاد نحو مأزق سياسي آت لا محالة.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيجي للسلام العالمي» بواشنطن