ما قل ودل: الإشراف القضائي على الانتخابات والتعديل الدستوري... ما لهما وما عليهما 3

نشر في 10-09-2007
آخر تحديث 10-09-2007 | 00:00
يمكن تعزيز الإشراف القضائي وتفعيله بتطبيق مبدأ القاضي الطبيعي في الإشراف على الانتخابات، مثلما يطبق هذا المبدأ في الفصل في الخصومات، فلا يتم اختيار قاض بعينه للإشراف على الانتخابات في دائرة بعينهاً، بما ينأى برجال القضاء عن أي شبهة.
 المستشار شفيق إمام نستكمل في هذا المقال، الحوار حول إلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات في مصر وتعديل المادة 88 من الدستور المصري لتحقيق هذا الغرض، ومبررات هذا التعديل، الذي سيق فيه من بين هذه المبررات اعتبارات عملية كانت وراء هذا التعديل، مفادها قلة عدد القضاة بالنسبة إلى الأعداد الكبيرة من الناخبين والتي تتزايد يوماً بعد يوم، الأمر الذى يتطلب إنشاء الآلاف من اللجان الفرعية التي تزيد كثيراً عن عدد رجال القضاء، وأن في إطالة أمد العملية الانتخابية وتقسيمها إلى مراحل، كما حدث في انتخابات 2000، ما يضر بحسن سير العدالة، بتعطيل المحاكم، وشل الحياة العامة ومزيد من المواجهات الساخنة وأعمال العنف والضحايا، والرغبة في النأي برجال القضاء عن المعارك الانتخابية، وهي معارك سياسية قد تمس بهيبة القضاء ومكانته في نفوس الناس، خاصة مع ما جرى من اتهامات متبادلة بين رجال القضاء أنفسهم في المعركة الانتخابية.

وفي اعتقادي أن حق الانتخاب والضمانات التي يحاط بها في أي دستور، هو المظلة التي تستظل بها مبادئ الحرية والمساواة كافة في الدساتير، فيأخذ حكمها ويحتمي بحماها ضد أي تعديل دستوري إلا لمزيد من توسيع للمشاركة الشعبية في الانتخابات، ومزيد من الضمانات لكي تعبر هذه الانتخابات تعبيراً صادقاً عن الإرادة الشعبية، وليصبح حكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، حقيقة واقعية وليس شكلاً بغير مضمون.

لذلك لا أعتقد أن أحداً يمكن أن يصدق أن الاعتبارات العملية وضرورة إجراء الانتخابات في يوم واحد يمكن أن تكون مبرراً لتعديل أي دستور، فالدساتير لا تعدل لاعتبارات عملية، فهي تضع الأصول والكليات، ولا تنحدر إلى التفاصيل التي تحددها القوانين واللوائح القادرة على مواجهة أي مستجدات ومعالجة أي اعتبارات عملية.

فضلاً عن أن الدساتير يجب أن تتمتع بالثبات والاستقرار، لذلك فإن النص على وجوب إجراء الانتخابات في يوم واحد لا يمكن أن يرقى إلى أن يكون نصاً دستورياً أو نصاً يرد في قانون، لأن معناه بطلان الانتخابات التي لا تجري في يوم واحد، أو تعريض الدستور للتعديل لتفادي الأحكام الصادرة بالبطلان أو تعديل القانون للغرض ذاته، مع ما يتطلبه تعديل الدستور من إجراءات طويلة ومعقدة، الثبات والاستقرار اللذان يتسم بهما أي دستور، وهو ما يطلق عليه جمود الدساتير.

ولا تعدل الدساتير إلا لمزيد من الحقوق والحريات للمواطنين، ولمزيد من ضماناتها، ولهذا كان الأولى بدلاً من الإقلال من الضمانات المقررة لحق الانتخاب، معالجة أزمة التعاون بين رجال القضاء ورجال الإدارة والشرطة، التي كشفت عنها الانتخابات، والتي لا تحتاج إلى تعديل دستوري، بعد أن وقف رجال الشرطة في بعض الدوائر حائلاً دون تصويت الناخبين، بل دون تمكين رجال القضاء من أداء مهمتهم كاملة في الإشراف الكامل على الانتخابات، ومن ثم جاءت الانتخابات في هذه الدوائر غير معبرة عن إرادة الناخبين، وغير معبرة بالتالي عن إرادة الأمة التي يمثلها بأسرها كل نائب في كل دائرة.

أما التذرع بما جرى من اتهامات متبادلة بين رجال القضاء حول تغيير النتائج في بعض الدوائر، والاتخاذ من ذلك ذريعة لتعديل المادة (88) من الدستور للحفاظ على مكانة رجال القضاء وهيبتهم في نفوس الناس، فمردود عليه، بأن انحراف بعض القضاة حتى على منصة المحكمة هو أمر وارد، وقد واجهه المشرع بأن شرع نظام رد القاضي ودعوى المخاصمة، ولا ينال ذلك من سلامة الجسم القضائي ككل، ومن الثقة المشروعة للمواطنين فيه باعتباره ملاذاً للناس وحصناً حصيناً لحقوقهم وحرياتهم، وعلى رأسها الحق الدستوري في الانتخاب، والذي هو وسيلة الشعب إلى حكم نفسه بنفسه ولنفسه. وأنه كان يمكن تعزيز الإشراف القضائي وتفعيله بتطبيق مبدأ القاضي الطبيعي في الإشراف على الانتخابات، مثلما يطبق هذا المبدأ في الفصل في الخصومات، فلا يتم اختيار قاض بعينه للإشراف على الانتخابات في دائرة بعينها، كما لا تحال قضية بعينها إلى قاض بعينه، بل يكون تعيين القضاة في هذا الإشراف وفقاً لقواعد محددة سلفاً، بما ينأى برجال القضاء عن أي شبهة وعن الاتهامات المتبادلة في ما بينهم، كما أنه يمكن مواجهة مشكلة الوقت الذي تجرى فيه الانتخابات، بزيادة عدد الصناديق في كل مركز انتخابي، بحيث يقتصر دور القاضي في كل مركز على الإشراف على أداء الموظفين المكلفين بمراجعة الكشوف ومراجعة البطاقات، لا أن يتولى بنفسه مراجعتها وبتوحيد مواعيد الانتخابات في موعد واحد بالنسبة الى مجلسي الشعب والشورى والمجالس المحلية، ولو اقتضى ذلك تعديلاً دستورياً.

ولا ريب في أن توسيع المشاركة الشعبية في الانتخابات كان الهدف الأهم من نص المادة 88 من الدستور المصري قبل تعديلها الأخير، وذلك بعد فقدان الثقة بصناديق الانتخابات وعزوف المواطنين عن الإدلاء بأصواتهم فيها، مما أدى إلى انخفاض نسبة الأصوات الصحيحة إلى أقل من (20%) من أصوات الناخبين، وإلى وجود أغلبية صامته، لا تشارك في الحياة السياسية، وتأليف أحزاب هشة غير قادرة على تجميع الجماهير أو التعبير عن إرادتها، وكان النجاح النسبي الذي حققة الإشراف القضائي الكامل على انتخابات سنة 2000 في الجولة الأولى من نتائجها المعلنة، بارقة أمل في جذب الأغلبية الصامته إلى هذه الصناديق، وظهور رموز جديدة في العمل الوطني والسياسي قادرة على إحداث التغيير المطلوب والإصلاح السياسي، وقادرة على خلق واقع جديد وسلوك ديموقراطي لدى رجال الإدارة والشرطة الذين اعتادوا على التجاوزات التي تحدث في صناديق الانتخابات، فلم يعودوا قادرين على حمايتها لعدم وجود أي ضمانات لديهم، بعكس رجال القضاء الذين يتمتعون بالاستقلال وعدم القابلية للعزل، ويتحلون بقيم قضائية رفيعة تربوا عليها، تجعلهم بمنأى عن الشبهات، وتخلق لدى الناس ثقة مشروعة في نزاهتهم وعدلهم.

ومن المؤكد أن تجربة الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات، كان يمكن أن تحدث تحولاً ديموقراطياً كبيراً وأن تغير الخريطة السياسية في مصر، بل في العالم العربي، الذي تنعكس أوضاع مصر عليه، لو لم تنهض قبل أن تنضج.

 

استدراك: سقط في العنوان الفرعي للمقال السابق كلمة «ليس» وصحة ما جاء في هذا العنوان بمنع القضاة من الاشتغال بالسياسة ليس معناه حرمان القاضي من المساهمة في الحياة العامة...

back to top