اليسار الإسلامي: اعتراضـات وردود

نشر في 10-09-2007
آخر تحديث 10-09-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

الإسلام هو اللحظة الثالثة في تطور العلاقة بين الدين والسياسة، بعد اللحظة الأولى، تغليب السياسة على الدين في اليهودية، واللحظة الثانية، الفصل بين الدين والسياسة في المسيحية. اليسار الإسلامي تيار معارض، ينقد النظم السياسية القائمة على التبعية للخارج، والقهر والفساد في الداخل، وينقد المؤسسة الدينية التابعة للدولة والمبرِّرة لقراراتها في الحرب والسلم.

على الرغم من هذه المداخل الواضحة لليسار الإسلامي وعرض أوجهه المختلفة، فإن تجربة ربع قرن من مجالات تأسيسه لم تمنع من توجيه بعض الاعتراضات الرئيسة إليه. وهي شبهات تُثار من الأحزاب السياسية الدينية والعلمانية، المحافظة والتقدمية، ومن الدولة ومؤسساتها الدينية، ومن الأفكار الشائعة نتيجة للإعلام المزيف وما تعود عليه الناس من تقليد لما هو سائد من دون التفكير الأصيل. إذ يقال على اليسار الإسلامي:

1 - ليس في الإسلام يسار ويمين. الإسلام دين واحد، جوهره واحد، وعقائده ثابتة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره. كبائره معروفة وصغائره مُحصاة. لا تختلف العبادات من قطر إلى قطر، ولا من قارة إلى قارة، ولا من شعب إلى شعب، ولا من ثقافة إلى ثقافة. شهادة أن لا إله إلا الله على كل لسان، ينطقها المسلم ليعلن انتماءه وانتسابه إلى الأمة. وهذا صحيح نظراً، لكن عملاً تتعدد القراءات والممارسات الإسلامية، خاصة في المعاملات والعادات.

يشير اليسار الإسلامي إلى إحدى القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع، الفقراء والمحرومين والمساكين والطبقات الدنيا في مقابل إسلام الأغنياء وشركات توظيف الأموال ورجال الأعمال وموائد الرحمن وبيوت الزي الإسلامي. ففي كل مجتمع هناك يسار ويمين، فقراء وأغنياء، طبقة دنيا وطبقة عليا. اليسار الإسلامي سياق اجتماعي سياسي تاريخي للإسلام في مرحلة تاريخية معينة وفي عصر معين ولدى شعب معين، في مرحلة تفاوت الدخول في عصر النفط.

وكما أن هناك تمايزاً بين المذاهب الفقهية الأربعة والاتجاهات الفلسفية والفرق الكلامية والطرق الصوفية، فإن هناك تمايزاً أيضاً في تفسير الإسلام طبقاً لحاجات الناس وطبقاتهم الاجتماعية التي تتغير بتغير الزمان والمكان، كما فعل الشافعي بين العراق ومصر.

2 - اليسار الإسلامي نزعة توفيقية وأحياناً تلفيقية بين نزعات عدة تجمع بين عدة متناقضات، هو مشروع مستحيل مثل «الثلج المقلي»، يرفضه اليسار واليمين، فاليسار علماني وليس دينياً، واليمين ديني وليس علمانياً. والحقيقة أن هذه الشبهة إنما تنتج من عقلية الاستقطاب بين مطلبين كلاهما صحيح، القديم والجديد، الماضي والحاضر، التراث والمعاصرة، الأصل والفرع، الآخرة والدنيا. وكل سمات اليسار الإسلامي مطالب فعلية للعصر. فهو إسلام مستنير لحاجة العصر إلى العقلانية والاستنارة، كما عبر عن ذلك بعض المفكرين العرب المعاصرين مثل محمد عبده ومصطفى عبد الرازق وطه حسين. وهو إسلام ليبرالي لحاجة العصر إلى الحرية، كما عبر عن ذلك الطهطاوي والعقاد والشرقاوي، وهو إسلام اشتراكي جماعي لحاجة العصر للعدالة الاجتماعية والمساواة، كما عبر عن ذلك مصطفى السباعي في سورية وسيد قطب في مصر، وهو إسلامي قومي كما هي الحال عند منير شفيق وخلف الله ومحمد عمارة، نظراً إلى مخاطر التجزئة والتفتيت للأقطار، بعد أن قُضي على الخلافة لمصلحة القومية العربية في 1923، ثم قُضي على القومية لمصلحة القطرية بعد حربي الخليج الأولى والثانية، ثم قُضي على القطرية لمصلحة الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية والقبلية بعد العدوان الأميركي على العراق في 2003، والحرب الأهلية في لبنان وإبراز قضية السودان شمالاً وجنوباً في الجنوب، وشرقاً في دارفور. وهو إسلام إنساني كما عبر عن ذلك العقاد وغيره، نظراً إلى خرق حقوق الإنسان في عصرنا وتعذيب المعتقلين السياسيين بالآلاف. وهو إسلام تقدمي كما هي الحال في تونس نظراً إلى تصنيف الشعوب العربية والإسلامية ضمن الدول المتخلفة أو النامية. وهو إسلام طبيعي يبدأ من العالم والناس نظراً إلى غلبة العقائدية القطعية والنصية الحرفية مثل أحمد كمال أبو المجد وسليم العوا. وهو إسلام وطني مثل طارق البشري نظراً للهويات الطائفية السائدة الآن وتواري الأوطان. وهو إسلام أممي مثل عادل حسين، نظراً إلى ما فعلته الحدود الوطنية من تجزئة وتقسيم ومعارك حدودية ونزاعات بين القبائل على طرفي الحدود على الثروات الطبيعية، وهو إسلام علماني مثل أحزاب الوسط نظراً إلى سيادة النزعات الدينية المعادية لقيم العقل والحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وهي قيم إسلامية أصيلة تجلت في التراث الإسلامي، وهو إسلام عملي حركي مثل بعض الأجنحة المستنيرة في الحركة الإسلامية نظراً إلى سيادة الخطاب الديني النظري الوعظي الذي يدخل في أذن ويخرج من الأذن الأخرى.

3 - اليسار الإسلامي نزعة مادية وتيار ماركسي شيوعي إلحادي. لا يهتم بالغيب ولا بالحياة بعد الموت إلى آخر ما هو معروف من أمور الميعاد. والحقيقة أن هذه هي صورة نمطية للإسلام منذ العصر العثماني، تغليب الآخرة على الدنيا، والنفس على البدن، والله على العالم، وهو ما قاومته حركات الإصلاح الديني الحديثة، فالتراث الإسلامي قام على أساس الاهتمام بالعالم.

يبدأ علم الكلام وهو علم العقائد بالعالم أولا للاستدلال به على وجود الله، ويتحدث الفلاسفة عن الطبيعيات كمقدمة للإلهيات، ويدافع بعض الصوفية عن وحدة الوجود، الجمع بين الحق والخلق، ويقوم علم أصول الفقه على تعليل الأحكام الشرعية بالعلل المادية ليقيس عليها أحكام الوقائع الجديدة.

4 - اليسار الإسلامي تيار غربي يقلد «لاهوت التحرير» في المسيحية خاصة. والحقيقة أن اليسار الإسلامي استئناف لحركات الإصلاح التي أسسها الأفغاني وإقبال وتطويرها كي تصبح أكثر جذرية وقدرة على التأثير في العالم وإصلاح المجتمعات وتأسيس نهضة الشعوب. وقد سبقت الديانات الأخرى مثل المسيحية والبوذية الإسلام في وضع أسس «لاهوت التحرير» المعاصر في تحقيق المشاريع القومية في الحرية والعدالة، والاستقلال والتنمية ابتداءً من تراثها. كان القدماء منتصرون على الأرض فصاغوا العقائد النظرية، ونحن منكسرون على الأرض في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وكلها تحت الاحتلال المباشر، ومازلنا نتحدث عن عذاب القبر ونعيمه، ونكر ونكير، ونواقض الوضوء وحلق عانة الميت، وإرضاع الكبير.

كما أن هذه الشبهة تعطي النفس أقل مما تستحق، وتعطي الغرب أكثر مما يستحق، وترجع كل تقدم وإبداع عند الأنا إلى منابعه ومصادره عند الآخر، وكأن الأنا أصبح عقيماً رضي بأن يكون تلميذاً إلى الأبد، والآخر هو المبدع والمعلم. ولقد استطاع الإسلام في الماضي القيام بنهضة من الداخل وتأصيله في إبراهيم ولم يرَ غضاضة في التعامل مع الحضارات المجاورة، يونانية ورومانية غرباً، وفارسية وهندية شرقاً، والآن أوروبية شمالاً، وأفريقية جنوباً.

5 - اليسار الإسلامي خلط بين الدين والسياسة، يرغب في الوصول إلى الحكم. هو مجرد توزيع أدوار داخل الحركة الإسلامية التي مازالت تسعى إلى الوصول إلى السلطة. اليسار الإسلامى مجرد واجهة إعلامية مستنيرة تقوم بدور الغطاء النظري للحركات الإسلامية المحافظة التي تمارس العنف، بل والإرهاب. والحقيقة أن الإسلام لا يفرق بين الدين والسياسة، كما يفعل الغرب نظراً إلى ظروف الكنيسة في صراعها مع الدولة. الإسلام يطبق المثال في الواقع، وملكوت السماوات الذي عرفته المسيحية في ملكوت الأرض الذى عرفته اليهودية. يحول النظر إلى عمل، والفكر إلى ممارسة. هدفه تحقيق التقدم والتغير الاجتماعي من خلال التواصل وليس من خلال الانقطاع، حتى لا يحدث رد فعل إلى القديم من جديد كما حدث فى الغرب. الإسلام هو اللحظة الثالثة في تطور العلاقة بين الدين والسياسة بعد اللحظة الأولى، تغليب السياسة على الدين في اليهودية، واللحظة الثانية، الفصل بين الدين والسياسة في المسيحية. اليسار الإسلامي تيار معارض. ينقد النظم السياسية القائمة على التبعية للخارج، والقهر والفساد في الداخل. وينقد المؤسسة الدينية التابعة للدولة والمبررة لقراراتها في الحرب والسلم، في الاشتراكية والرأسمالية بالرجال نفسهم والفتاوى نفسها. الإسلام دين ليس به رجال دين أو كنيسة أو سلطة دينية إلا سلطة العلم. يفك الحصار عن المعارضة العلمانية بأنها ضد الدين. ويخفف من عداء الحركات المحافظة للإيديولوجيات العلمانية، ليبرالية وقومية واشتراكية وماركسية وإسلامية مستنيرة، كما هي الحال في تركيا وماليزيا. وينقد نفاق الإعلام الرسمي واستخدام الدين لمصلحة الحزب الحاكم.

6 - التيار الإسلامي يرفضه الناس لأنه يمس عقائدهم الشعبية. هو تيار نخبوي يسهل حصاره من اليمين واليسار والدولة. هو عند اليمين الديني شيوعية وإلحاد مقنعان. وعند التيار العلماني إسلامي مقنع، وفي أجهزة الدولة الأمنية اليساريون الإسلاميون «إخوانيون شيوعيون»، كما اتهم الشاه من قبل فصائل الثورة الإسلامية مثل «مجاهدي خلق». هو غير مؤثر، أقلية معزولة أمام الأغلبية الطاغية للحزب الحاكم. والحقيقة أن الاتصال المباشر بين اليسار الإسلامي والجماهير يدل على قدرته على التعبير عن الأغلبية الصامتة، عن الوسط بين الجناحين السلفي والعلماني. يريد المحافظة على الشرعيتين في الوقت نفسه، الإسلام والعالم، الدين والثورة. ليس حريصاً على السلطة والحكم، بل هو للحفاظ على وحدة الأمة في مسارها التاريخي، «إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها».

* كاتب ومفكّر مصري

back to top