المرئي والمكتوب
كان هذا عنوان إحدى الندوات التي شهدها مهرجان القاهرة للإعلام العربي في دورته الثالثة عشرة، ويبدو أنه أيضاً عنوان جدل ممتد وأسئلة لا تنقطع عن العلاقة بين الإعلامَين المكتوب والمرئي على الصعد المحلية والإقليمية وفي العالم أجمع.القناعة التي تبدو سائدة ومحل اتفاق واضح من أطراف شتى أن الزمان الراهن هو زمان الفضائيات بامتياز، وأن عدد الفضائيات الناطقة بالعربية وتنوعها وإقبال المشاهدين عليها وتزايد حصصها من إجمالي المنفق على الإعلان كلها عوامل تشير بوضوح إلى أن زمن المكتوب ولّى أو على الأقل أن هذا المكتوب في طريقه إلى الانحسار لمصلحة المرئي.
المفاجأة حدثت حين طرح كاتب هذه السطور فكرته على المشاركين في ندوات المهرجان، وهي الفكرة التي لاقت عدم اقتناع أولي، ثم ما لبثت أن حصلت على تفهم البعض، وربما اقتناعه، بعدما تم استعراض البراهين والأدلة الداعمة تفصيلياً.والفكرة ببساطة تقول إن تقييم أي نشاط إعلامي لا يمكن أن يحدث بمعزل عن فكرة أن الإعلام صناعة، وأن تقييم فرص أي صناعة وحظوظها في إطار المنافسة ينطلق من معايير محددة تتعلق بالإنتاج والربحية والعرض والطلب، وليس بالانطباعات والأفكار المسبقة.ومن هذا المنطلق تحديداً، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، وعلى رغم وجود أكثر من 300 قناة ناطقة بالعربية في فضاء المنطقة، وعلى رغم انشغال الشارع والإعلام البادي بما تبثه الفضائيات، فإن معايير الصناعة تقول إن العالم العربي يعيش «زمان الصحافة المطبوعة» اليوم بكل تأكيد، وأن أرقام الصناعة تؤكد هذا وتبرهن عليه بوضوح.الشاهد الأكبر على ذلك أنه في الوقت الذي تستأثر القنوات الإخبارية الفضائية الناطقة بالعربية بالاهتمام والانشغال على مستوى الدول والحكومات وأنواع الإعلام الأخرى وقطاعات في الشعوب عديدة، فإن هذه القنوات كلها، وبلا استثناء، تعمل وفق أسس تشغيل غير اقتصادية، ويخسر القائمون عليها أموالاً كثيرة، أو ربما أنهم يستثمرون هذه الأموال في مشروعاتهم الإعلامية لتنويع ركائز قوتهم بشكل أو بآخر.وليس خافياً على أحد أن القنوات الإخبارية الأربع الأولى في عالمنا العربي تحديداً لم تتعادل نفقاتها مع إيراداتها أبداً، رغم مرور عشر سنوات وأكثر على عمل بعضها، وأن القنوات الجديدة التي تؤسس أو تنطلق الآن تتم هيكلتها على هذا الأساس، ويرصد القائمون عليها أموالاً للتشغيل لا يخططون لاسترجاعها، باعتبار أن حال الصناعة في هذا المجال برهن على صعوبة التعادل توطئة لتحول القناة إلى الربحية لاحقاً. بعض الفضائيات العامة العربية يتم «ستر» عدم اقتصادية تشغيلها باعتمادها على شقيقة مطبوعة أو أكثر في المؤسسة ذاتها، وفضائيات أخرى تحقق مكاسب بسبب حصصها الإعلانية الكبيرة، لكن عددها قليل. ويظهر إلى جانب ذلك التلفزيون المدفوع الذي يعاني مشكلات كثيرة حتى الآن، وبعد عقد أو أكثر من الخسائر المنتظمة، لا يبدو أنه عوّض مالكيه ولو جزئياً بأرباح مجزية.على النقيض تماماً من ذلك، تعرف دول عربية عدة اليوم إقبالاً كبيراً على إصدار الصحف المطبوعة، فمع الانفتاح النسبي في مجال الحريات العامة في أكثر من دولة، وتغير أنظمة تراخيص إصدار الصحف المطبوعة، صدرت صحف عدة، وهناك العشرات من الطالبين ينتظرون الحصول على تراخيص لإطلاق صحفهم.وبجانب السهولة النسبية التي طرأت على الجانب القانوني المتعلق بالإصدار، فثمة سهولة موازية طرأت على جوانب صناعية ولوجستية، فقد توافرت تقنيات التنفيذ والطبع، وتراجعت أثمانها بشكل واضح؛ الأمر الذي عوّض الارتفاع الحاصل في أسعار الورق، كما نشأت شركات توزيع عدة عملاقة، فضلاً عن شركات توزيع صغيرة (موزعين من الباطن) تتميز بالقدرة على التركيز في المناطق البعيدة وفي أعماق البلدان، وتقدم أسعاراً منافسة.وإلى جانب هذا وذاك، فقد تقدمت تكنولوجيا الطباعة في بلدان أوروبا تقدما كبيراً في السنوات الخمس الأخيرة؛ الأمر الذي فرض على كثير من المؤسسات الأوروبية ضرورة استبدال مطابع جديدة بمطابعها الراهنة رغم قدرتها على الأداء، فسارعت هذه المؤسسات إلى التخلص من مطابعها بأثمان بخسة، فتلقفتها الأيدي في الهند وكوريا الجنوبية ودول أخرى منها بعض البلدان في العالم العربي.حجم الإنفاق الإعلاني في الصحف المطبوعة في العالم العربي يصل وفق بعض التقديرات إلى مليار ونصف المليار دولار أميركي سنوياً؛ ففي منطقة تكثر فيها إعلانات الوفيات والتهاني والتبريكات والنزعات الاستهلاكية يمكن توقع مثل هذا الرقم، خصوصاً أن المنطقة تشهد معدلات نمو اقتصادي عالية ومطردة في الزيادة، على خلفية الارتفاع القياسي في أسعار النفط.فتغير في قواعد الإصدار نحو تسهيل الحصول على التراخيص، وإنفاق إعلاني قوي متزايد، وتكنولوجيا طباعة وتنفيذ متقدمة ورخيصة، وشركات توزيع قوية، وقوة عمل رخيصة نسبياً، وارتفاع في معدلات تعلم القراءة والكتابة، ونمو اقتصادي وطني كبير، وأشخاص ودول وحكومات تبحث عن طرق للتأثير في الرأي العام لزيادة ركائز قوتها، وأحداث متلاحقة يملأها التوتر، وتعد بالتغيرات الدراماتيكية، في منطقة تعرف المخاطر والحروب والتقلبات على مدى التاريخ، كلها عوامل جعلت زماننا هو زمن الصحافة المطبوعة.اليوم تربح الصحف «الحكومية» في بلدان عربية عديدة معتمدة على طلبات لا تنضب للإعلان في صفحاتها، وتربح صحف خاصة، وأحياناً تتعملق، فتطبع طبعات عديدة، في أماكن مختلفة، داخل أوطانها وخارجها، وتصدر ملاحق أو مطبوعات أخرى، ثم توزع أرباحاً على المساهمين، ثم تفكر في إطلاق فضائيات... ربما لكي تبدد جزءاً من أرباحها.* كاتب مصري