خذ وخل: فيروز عروس الاحتفالية

نشر في 23-01-2008
آخر تحديث 23-01-2008 | 00:00
 سليمان الفهد

مشاركة السيدة فيروز بمسرحيتها الخالدة «صح النوم» هي ضربة معلم بحق للقيّمين على الاحتفالية، وضربة موجعة للراغبين في «إفشال» الاحتفالية ذاتها، فضلا عن تأجيج حالة التأزيم بين القطرين الجارين الشقيقين: سورية ولبنان! إن الفن بعامة موحد يلم الشمل، ويئد الفرقة والتشرذم لاسيما إذا كان يجسده إبداع فيروز والرحابنة.

* حين يكون المرء موصولاً بعلاقة حميمة مع مدينة بهية مثل دمشق منذ الخمسينيات وإلى ما شاء الله، لن تكفيه مدة أسبوع لزيارة بيوت الأصدقاء - فما بالك إذا كنت تطمح إلى التسكع في دمشق العتيقة العريقة بدءاً من حي «بورمانة» الهادئ الذي يحتضن السفارات ومنازل السفراء والطبقة السورية المتوسطة وجامع الروضة وقصر الضيافة، الذي كان «يلعلع» فيه صوت الرئيس «عبدالناصر» إبان الوحدة بين الإقليم الجنوبي «مصر» والإقليم الشمالي «سورية».

لدمشق أسماء شتى نحتت لها عبر تاريخها العريق، لكن اسمي «جُلّقْ» و«الفيحاء» هما اللذان يسكنان في الوجدان. لكن الفيحاء باتت اسما على غير مسمى! كاسم منطقة الفيحاء في دولة الكويت! مع الاعتذار الشديد من الفيحاء، طبعاً، الشامية بالتأكيد! هذه الخواطر تداعت إلى ذاكرتي، بينما الطائرة تدرج مطار دمشق الدولي.

أين ذاك المطار الحميم المبني من الحجر في المزة القديمة؟ والذي كان على مرمى حجر من وسط مدينة دمشق. لكن ما أهذر به يحيل إلى الماضي والنواح على أطلال ذكريات الشباب وحضور المدينة التي يشيخ الزمن ولا تشيخ!

في الفندق وجدت في انتظاري الصديق الإنسان الجميل الأديب والخبير الإعلامي ياسر المالح أو الأستاذ «ياسر المالح» الحلو إن شئت! طربت لبسمته البشوش المتضرج بـ «الشبوبية» والحيوية التي كانت حاضرة في شخصه منذ 17 سنة، آخر مرة رأيته فيها. الحق أني غبطته على شبابه، وظننت آثما أن صاحبنا عَنّ له مسايرة حمى «النيولوك» وعمليات التجميل.. التي اقتحمت دمشق الأيام الخوالي! سألته مباشرة: ما سر شبابك الدائم: رياضة، حمية، عملية قمع اختياري للمعدة وتخزيمها؟! قال في العمل يكمن إكسير الشباب، وأيقنت لم أنا عجوز دردبيس، وديناصور يستأهل التربع في المتحف!

* الشاهد أن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية ضمت الشامي مع المغربي على مستوى الفعل هذه المرة وليس كما يقول المثل، فقد حرص القيّمون على الاحتفالية الإشهار عن المناسبة شعبياً في حدود الإمكانات المتاحة، ورسمياً بدعوة رئيس الجمهورية لحضور حفل الافتتاح بمعية رؤساء دول ووزراء ثقافة وإعلام وأعلام الأدب والثقافة والصحافة وغيرهم، وحشد كبير من الجمهور الكريم الذي كان العبدلله واحداً منهم! لأني أحب أن أكون بمعية «الترسو» جمهور الدرجة الثالثة! فهم ملح الأرض.

شهدت حفل الافتتاح في مكانين: نصفه الأول في دار الأوبرا والنصف الآخر في المطار عبر التلفزيون!

لكن الأعمال التي سبقت عشية الافتتاح تكفي لمعرفة هوية الاحتفالية ومضمونها، وهو ما تبدى في إنجازات وفعاليات الاحتفالية التي بات يعرفها الكثيرون ويتابعون أخبارها ولقطات إخبارية خارجة من رحم الفعاليات الموسيقية والغنائية والمسرحية وغيرها، ولعل أبرز ما في هذه الاحتفالية هو دعمها للمبدعين الواعدين في المسرح والرقص المعاصر، والرسوم المتحركة، والسينما. ومن هنا كان إطلاق مشروع المنح الإنتاجية حريا بالفكر لكونه عني باحتضان 26 عملاً إبداعياً في المناحي الإبداعية آنفا، بعد اختيارها بدقة وشفافية، عبر لجان من المختصين المعروفين، الذين كانت مهمتهم شاقة، لكون الطلبات الكثيرة جداً التي انهمرت عليهم بقدر، ربما فاق ما كان يتوقعه القيّمون. ولا حاجة بي إلى التنويه بان هذه المبادرة الايجابية الزينة المكرسة لدعم المبدعين الواعدين الجدد تأتي في سياق غاية التواشج بين الثقافة والتنمية الطويلة المدى المراهنة على المستقبل بثقة وأمل.

* أما مشاركة السيدة فيروز بمسرحيتها الخالدة «صح النوم» فهي ضربة معلم بحق للقيّمين على الاحتفالية، وضربة موجعة للراغبين في «إفشال» الاحتفالية ذاتها، فضلا عن تأجيج حالة التأزيم بين القطرين الجارين الشقيقين: سورية ولبنان! إن الفن بعامة موحد يلم الشمل، ويئد الفرقة والتشرذم لاسيما إذا كان يجسده إبداع فيروز والرحابنة الذي لم يعد يحتاج نعته بأي صيغة من صيغ أفعل التفضيل! وسأدع السجال العرباوي اياه بشأن مشاركة السيدة فيروز في الاحتفالية للزملاء المؤيدين والمعارضين، لأن العبدلله يعتقد جازماً بأنها «قطاع عربي فني حضاري عام»، يخص الشعوب العربية كلها، ويستحيل «تأميمها» لمصلحة نظام وحزب وميليشيا وطائفة ومذهب! لذا غنت لجُل الشعوب العربية ومدنها المقدسة روحياً، والمتجذرة في القدم والعراقة، فضلا عن الحواضر العربية الحديثة تأكيداً لتوجهها العروبي الكوني الإنساني المجسد للمقولة اللبنانية الرومانسية: «فيروز سفيرتنا إلى النجوم».. العابرة للحدود والسدود، المتجاوزة لخلافات الأنظمة واختلاف الساسة! حسبنا استدعاء تغريدها المعجز للشام في كل حفل تشدو به هناك: «سائليني يا شام سائليني/ حين عطرت السلام/ كيف غار الورد واعتل الخزام/ وأنا لو رحت استرضي الشذا/ لانثنى لبنان عطرا يا شام». أو حين تموسق التحية والمحبة له في ترنيمة شجية تؤكد علاقتها العضوية بالشام وأهله: «شام أهلوك أحبابي وموعدنا: أواخر الصيف آن الكَرْمُ يعتصر/ نعنق النغمات البيض نرشفها يوم الأماسي.. لا خمر ولا سهر» ومن هنا من الظلم السخيف اتهامها بـ«التخوين» المجاني الجاهز الذي يلوكه ويجتره بعضهم المستفيد من حالة «الحيص بيص» التي تكابدها الأمة!

back to top