حديقة الإنسان: رواية تنعى كاتبتها!

نشر في 02-11-2007
آخر تحديث 02-11-2007 | 00:00
 أحمد مطر

من المصادفات الغريبة أن سقوط رواية «ربيكا» من رف مكتبة الكاتبة «مارغريت فورستر» بدا كما لو أنه إشارة إلى أن دافني (صاحبة الرواية) كانت قد بدأت تستعد لموتها! ففي يوم الأحد 16 ابريل نفسه، عندما استيقظت دافني من النوم قالت إنها تريد أن تذهب إلى الشاطئ، حيث كانت «ربيكا» بطلة الرواية قد واجهت منيتها. وعلى هذا فإن ترادف المصادفات إنما يشكّل حقائق واقعية خالصة، الأمر الذي قد يقنعنا بأن للكتب أرواحاً بالفعل!

قال بائع الكتب المستعملة لولده الصغير: إن كل كتاب تراه هنا له روح... هي روح الشخص الذي كتبه وأرواح القرّاء الذين تداولوه وعاشوا معه وحلموا به.

ذلك ما ورد في مفتتح رواية «ظل الريح» للإسباني «كارلوس ثافون»... ومثل هذا التعبير عن أرواح الكتب كثيراً ما يلوح لنا على صفحات العديد من المؤلفات، وعلى ألسنة العديد من المشتغلين بالكتابة أو القراء المدمنين، ولا ريب أن كل واحد منا، مهما بلغت درجة اقتناعه بصدق التعبير، سيسارع إلى إدخاله في درج المقاربة المجازية، إذ ليس من المعقول أن يبلغ الاقتناع بالمرء حد التصديق، واقعياً، بأن الكتاب كائن حيٌّ بالفعل يمكنه مثلاً أن يحمل للآخرين رسالة من صاحبه، أو ينعيه لهم وهو على فراش الموت مذكّراً إياهم بأن الوقت قد حان لتأبينه.

لكن ماذا سنقول إذا علمنا أن كتاب «ربيكا» لدافني دومورييه، قد فعل ذلك بالضبط؟! لنبدأ الحكاية من أولها:

تضمن كتاب «حَيَوات للبيع» لمارك بوستريدج، حكاية الكاتبة «مارغريت فورستر» عن تجربتها في كتابة سيرة «دافني دومورييه» الروائية البريطانية المعروفة، التي مرت قبل بضعة أشهر الذكرى المئوية لميلادها، والتي تركت أعمالاً كثيرة ومميزة تحول معظمها إلى أفلام سينمائية، مثل: الطيور، نزل جامايكا، بيت على الشاطئ، ربيكا... وغيرها.

لكن «ربيكا» تظل أشهر رواياتها وأبقاها أثراً، وقد نال الفيلم الذي اقتبس منها بالعنوان نفسه وأخرجه ألفريد هيتشكوك جائزة الأوسكار كأفضل فيلم لعام 1940.

تقول «فورستر» إنها في يوم الأحد 16 إبريل 1989 كانت تحاول أن تتناول كتاباً من رف المكتبة، عندما سقط كتاب آخر على الأرض، وحين التقطت ذلك الكتاب وجدت أنه رواية «ربيكا» التي سبق أن قرأتها وهي في نحو الثالثة عشرة من عمرها، ولم تعاود قراءتها بعد ذلك.

وقفت في مكانها، وبدأت تقرأ الرواية من جديد، مستعيدةً الإثارة التي اعترتها أثناء قراءتها أول مرة... ثم وجدت نفسها تتساءل عما إذا كانت دافني دومورييه لاتزال على قيد الحياة، وما إذا كان هناك أي كتاب سيرة عنها.

ولأن لها تجارب في كتابة السير، فقد رغبت فورستر أن تستطلع هذا الأمر، مؤملة بأن تكون أول من يحظى بإذن كتابة سيرتها لكي يكون لها الحق الحصري بالاطلاع على كل أوراق الكاتبة.

وفي الحال كتبت بطاقة إلى ناشرة كتبها تبدي لها فيها رغبتها في كتابة سيرة دافني، وتسألها عما إذا كان ذلك سيروق لدار النشر.

في صباح اليوم التالي وضعت البطاقة في البريد، ثم عكفت على إعادة قراءة أعمال دافني... وفي يوم الثلاثاء تلقت ردّاً من الناشرة أبدت فيه ترحيبها بالفكرة وأنبأتها بأن دافني لاتزال حيةً وأنها تعرف وكيل أعمالها، وستتصل به لترتيب الأمر.

تقول مارغريت فورستر:

المصادفة الغريبة هي أن سقوط رواية «ربيكا» من رف المكتبة بدا كما لو أنه إشارة إلى أن دافني كانت قد بدأت تستعد لموتها!

ففي يوم الأحد 16إبريل نفسه، عندما استيقظت دافني من النوم قالت إنها تريد أن تذهب إلى الشاطئ، حيث كانت «ربيكا» بطلة الرواية قد واجهت منيتها.

وبالرغم من أن الوقت كان ربيعاً، فإن الطقس كان متوحشاً في ذلك اليوم كما في الرواية، إذ هبّت الرياح هوجاء وهطل المطر بغزارة وشدّة.

وقفت دافني هناك فترة تحدق في البحر كشاخص تراجيدي ضئيل وصامت، ثم عادت لزيارة عدد من الصديقات من أجل توديعهن.

وفي اليوم نفسه الذي وصلتها فيه بطاقة الناشرة، تلقت فورستر اتصالين من «راديو 4» وصحيفة «صاندي تايمز» يطلبان منها فيهما كتابة نعي لدافني دومورييه التي ماتت للتو!

تلك ثلاث مصادفات غريبة تتصل بالروائية نفسها منذ سقطت روايتها من فوق الرف... وبفورستر التي فكرت في كتابة سيرتها!

تقول فورستر: لم أكن، بالطبع، أعرف أي شيء عن هذا، عندما طلبت أن أكون الكاتبة المخولة لسيرة دافني، لكنني أحببت الإحساس بأن القدر قد تدخّل، بطريقة ما، في هذا الأمر... فاحتفظت ببطاقة الناشرة بطوابعها المؤرخة بوضوح، وذلك خوفاً من أن يداخلني الاعتقاد بأنني أنا من اختلقت هذه البداية.

بعد أربعة أعوام، حين نشرت سيرة دافني، كان على مارغريت فورستر أن تهيِّئ نفسها للظهور في المناسبات الخاصة بترويج الكتاب، وقد حملها ذلك على أن تتجول بين المحال لشراء ثياب جديدة لارتدائها في زياراتها تسع مدن كان مقرراً أن تتحدث فيها عن كتابها.

وبعد جولة طويلة على محال الألبسة وقع اختيارها على سترة أعجبتها لكنها لم تكن تحمل بطاقة توضح ثمنها، فتوجّهت فورستر إلى البائعة وسألتها عن الثمن، فقالت لها إنه موجود على الرقعة الخاصة بالمقاييس وهي داخل جيب السترة ثم سحبتها من الجيب لكي تريها إياها.

رأت فورستر الثمن على جانب من الرقعة، لكن الغريب أن الجانب الآخر من الرقعة الخاص باسم مصممة الأزياء كان يحمل اسم... «ربيكا»!

تقول فورستر عن هذه المصادفة المذهلة إنها لاتزال تودّ الاعتقاد بأنها لم تكن مصادفةً إطلاقاً!

إن هذا يذكّرني بفلسفة الروائي الأميركي المميز «بول أوستر» التي تقول إن أحداث الحياة الواقعية هي ليست إلا سلسلة من المصادفات.

وعلى أساس هذه النظرة، فإن ترادف المصادفات في حكاية فورستر إنما يشكّل حقائق واقعية خالصة، الأمر الذي قد يقنعنا بأن للكتب أرواحاً بالفعل!

back to top