العمران والمفاهيم الاجتماعية الحاكمة 3-3

نشر في 16-04-2008
آخر تحديث 16-04-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي بشكل عام، لكل من المعمار الأفقي والرأسي، معاييره الصارمة التي تحدد حركة الإنسان في الفراغ، في العمران الأفقي، وأي تدخل خارجي يفسد أول ما يفسد في العمران، ومع فساد العمران يفسد كل شيء آخر، إلا اللمم. يعبث المستعمر بمحوري الزمان والمكان ومعهما تتغير صيغة الحياة، وإذا ما ابتعدنا عن مصر وعن قاهرتها ونظرنا إلى عواصم عربية أخرى ربما نلحظ نفس الخلل في العمران وفي السلوك، كبيرة وصغيرة، وللقارئ القدرة على استنباط الدلالات.

في دمشق، تمت النقلة العمرانية من المعمار الأفقي إلى المعمار الرأسي زمن الانتداب الفرنسي، لم يكن عمران الانتداب الفرنسي غريبا فقط من حيث الشكل والمقياس ومواد البناء، بل كان غريبا على المفاهيم الاجتماعية الحاكمة أيضا.

بنى الفرنسيون الأبنية السكنية الطابقية والمباني الإدارية والمشفى الذي يعرف اليوم باسم المشفى الفرنسي، وشقوا الشوارع العريضة الموصلة إليه لتسهيل وصول مرضاهم من الجنود والقادة إلى المشفى، واستخدموا الإسمنت المسلح كمادة للبناء. هذه النقلة العمرانية كانت مفاجئة وسريعة، إذ لم يمنح العمران المحلي، كما ذكرت سابقا، فرصته للتطور بل حل محله عمران مختلف متطور وفق مفاهيم اجتماعية مختلفة، فكان من السهل الانتقال الفيزيائي للناس من دورهم القديمة إلى الأبينة الجديدة، ولكن الانتقال الاجتماعي لم يكن بالسهولة نفسها، فمثلا يلحظ أن معظم البيوت التي انتقل إليها السكان مباشرة من بيوتهم الدمشقية القديمة المفتوحة على الفناء الداخلي، كانت تتوسطها غرفة مظلمة لا نوافذ لها تسمى (الصوفا) وتتوزع حولها غرف المنزل الأخرى. وهذه ملاحظة مثيرة للاهتمام، إذ لم يكن الدمشقي قد تخلى بعد عن فكرة الباحة الداخلية التي تتوزع حولها وظائف البيت، فاستعاض عنها بالصوفا. لاحقا، تطور تصميم المنزل وقلصت مساحة (الصوفا) لتصبح مدخلا يسمى الـ(انتريه)، وأصبحت (الصوفا) غرفة للمعيشة ذات نوافذ.

وإلى اليوم، تجد أن معظم نوافذ الأبنية السكنية في مدينة دمشق مسدل عليها الستائر، أو مزودة بالـ(أباجورات) الخشبية، هذه النوافذ محجوبة عن الرؤية ليلا ونهارا، لدرجة تلفت ناظر من يزور المدينة للمرة الأولى، فهو يستغرب لماذا النوافذ إذن؟ والأمر ذاته ينطبق على الشرفات (البلكونات)، فقلما تجد أحدا يجلس على الشرفة، حتى لو كان رجلا، فهو أمر مستهجن اجتماعيا لأن الجالس لا بد في رأيهم يسترق النظر إلى مكان ما. بل إذا ما أرادوا الطعن في أخلاق أحدهم قالوا: «شغل بلكونات». لذلك في الغالب، شرفات دمشق مهملة، فهي لنشر الغسيل أو وضع ما يفيض من حاجيات المنزل فيها.

هذا الانتقال المفاجئ في المعمار السكني في دمشق يشبه انتقال أبناء النوبة في مصر الذين أرغموا على ترك بيوتهم التي كانوا يقطنونها قبل بناء السد العالي، وتم نقلهم إلى قرى مشابهة سد في أسوان، في دهميت وناصر وقرى كوم امبو. ورغم أن معمار البيوت الجديدة التي انتقلوا إليها كان قريبا من بيوتهم القديمة، إلا أن أهالي هذه القرى رأوا في النقلة خللا حضاريا وانقطاعا بينهم وبين بلدانهم جنوب السد، ومازالت أغاني أهل النوبة تعكس فيما يشبه البكائيات، حزنهم الدفين على حياتهم القديمة. تكرر الأمر في مصر أخيراً، عندما نقل أهل قرية القرنة من فوق مقابر وادي الملوك إلى قرى قريبة منهم، ورغم أن القرية الجديدة تتوافر فيها منافع الحياة مثل المياه والصرف الصحي وخلافه، إلا أن أهل القرنة لم يكونوا سعداء بهذا الانتقال.

من هنا تبدو مسألة تطوير العمارة المحلية، وليس إلغاءها أو تجاهلها، مسألة مهمة، فالمفاهيم الاجتماعية من العوامل الحاكمة للمعمار، وهي عوامل لا يمكن الالتفاف حولها لأنها تمثل الحاجة الذهنية والنفسية للإنسان، المستخدم لهذا المعمار، فالذهنية الدمشقية مازالت تؤمن بأن نوافذ المنزل يجب أن تكون مفتوحة نحو الداخل لتؤمن خصوصية المكان، وتبعد عيون الفضوليين والمتلصصين... تماما كما كانت نوافذ البيت الدمشقي القديم مفتوحة نحو الفناء الداخلي (الباحة).

المفاهيم الاجتماعية الحاكمة للمعمار، هي التي أبقت تصميم المنزل في بغداد مثلا، مستقلا ذي حديقة أمامية وأخرى خلفية، إضافة إلى عوامل أخرى بالطبع، مناخية وجغرافية، إذ تساعد مساحة المدينة على الامتداد السكني الأفقي. قلب هذا المعمار رأسا على عقب يقلب معه الحياة الاجتماعية للبشر. الناس يشبهون عمارتهم وسلوكهم السياسي والاجتماعي هو جزء من عمرانهم، فهل لهذا القول مغزى ودلالات لمجتمعات عربية أخرى؟ أترك الإجابة لأبناء تللك البلدان ممن يريدون أن يتدبروا أمرهم بشكل مختلف.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)

back to top