بطريرك لبنان

نشر في 26-09-2007
آخر تحديث 26-09-2007 | 00:00
 بلال خبيز

يجدر بالرئيس العتيد أن يحوز نعمة التوافق عليه من جهة أولى، ومن جهة أخرى يجدر به أيضاً أن يكون مقلم المخالب ومهذب الأنياب، فلا يستقوي على الطرفين، أو يشكل قوة ثالثة. أما الصفة الثالثة التي يجدر بالرئيس العتيد أن يحوز شروطها كافة، فتتعلق بتاريخه وعلاقاته، إذ يجدر به أيضاً أن يكون على مسافة واحدة من الأميركيين والسوريين على حد سواء.

الكلمة السحرية التي تعبق أجواء الاستحقاق الرئاسي اللبناني اليوم هي التوافق... التوافق بين المختلفين يعني الاتفاق على انتخاب رئيس توافقي. والرئيس التوافقي يعني أنه لا يثير بتاريخه ولا ارتباطاته حفيظة أحد. لا سورية التي تتربص بلبنان من كل جانب، ولا أميركا التي تريد المحافظة على أهم إنجازاتها الشرق أوسطية في لبنان. وعلى المستوى الداخلي فإن الرئيس التوافقي يعني ألا يكون الرئيس مختلفاً مع «حزب الله» والمعارضة اللبنانية، وألا يكون مختلفاً من ناحية ثانية مع قوى الموالاة. أي باختصار: رئيس لم تلوثه السياسات اللبنانية. وهذه صفة يجدر بنا أن نجلها في أي مرشح محتمل. فالسياسات اللبنانية منذ زمن بعيد لم تعد مصدر فخر للمشتغلين بها، وهذا طبعاً كان معروفاً قبل أن يعلن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أنه يفضل أن يكون «زبالاً» في نيويورك على أن يكون زعيماً في لبنان.

ألا يكون الرئيس الجديد ملوثاً بأوحال السياسة اللبنانية هو أمر يجدر وضعه في خانة الإيجابيات. لكنها -حسب ما يعرف الجميع هنا في هذه العاصمة المصابة بطاعونها الخاص- من الإيجابيات التي تعني الترفع عن الخوض في الشؤون اليومية كافة. كيف يكون الرئيس العتيد مترفعاً عن الصراعات وهو يمثل طائفة كبرى في المعادلة اللبنانية التي ترتكز على طوائف ثلاث ولها رابعة في الأساس؟ إنه لغز ينبغي لمن يريد حله أن يختبر الحياة السياسية اللبنانية جيداً وأن يخوض غمارها طويلاً. الرئيس الجديد يمثل الموارنة، لكن الموارنة شعباً ومؤسسات سياسية منخرطون حتى الأذنين في الانقسامات السياسية المحلية. إذاً يفترض في الرئيس أن يكون مارونياً من جهة وألا يكون مارونياً من جهات عديدة.

يعرف اللبنانيون جيداً أن الساسة الموارنة الذين حرقوا السفن وراءهم لا يملكون حظاً في الوصول إلى سدة الرئاسة، ويعرف الموارنة من ناحية ثانية أن معادلة التوافق تقضي بأن يكون الرئيس العتيد مجهولاً في السياسة أو متكتماً بما يكفي لخداع الفريقين، وتعني أن الرئيس لا يمثلهم مثلما يمثل السيد حسن نصرالله الشيعة اللبنانية، ومثلما يمثل الشيخ سعد الدين الحريري السنة. لكنهم يعرفون أيضاً أن أوفر ممثليهم شعبية وأكثرهم قوة في الشكيمة لا يعدو أن يكون زعيماً لبعض الموارنة وليس كلهم.

البطريرك الماروني الذي ظن ذات يوم أن الموارنة اللبنانيين «تلبننوا» مثل غيرهم من الطوائف واختاروا زعيماً أوحد للطائفة بعد انتخابات 2005 النيابية، فآثر يومذاك الانزواء عن المشهد السياسي والانصراف إلى شؤون الرعية، استفاق على خيبة ظنه، وهذا من حسن حظ البلد ربما. ووجد نفسه مرة أخرى معنياً، بوصفه رأس الكنيسة المارونية، بأن يخوض في وحل السياسة اللبنانية للمرة الألف. ذلك أن رجال الطائفة الأقوياء يخيفون الناخبين المؤثرين من الطوائف الأخرى. فلا يقبل «حزب الله» بسمير جعجع أو من يمثله رئيساً، ولا يقبل تيار المستقبل السني بميشال عون أو من يمثله رئيساً. لكن الطرفين يتفقان على استبعاد قائد الجيش ميشال سليمان من السباق إلى الرئاسة، لأن قائد الجيش المنتصر قد يكون في موقع وسط بين الطرفين حقاً، لكنه موقع مسلح حتى أسنانه، وفق الاعتبارات اللبنانية للتسلح.

والحال كذلك... يجدر بالرئيس العتيد أن يحوز نعمة التوافق عليه من جهة أولى، ومن جهة أخرى يجدر به أيضاً أن يكون مقلم المخالب ومهذب الأنياب، فلا يستقوي على الطرفين، أو يشكل قوة ثالثة. أما الصفة الثالثة التي يجدر بالرئيس العتيد أن يحوز شروطها كافة، فتتعلق بتاريخه وعلاقاته، إذ يجدر به أيضاً أن يكون على مسافة واحدة من الأميركيين والسوريين على حد سواء. وبذا يضمن الفريقان المتخاصمان في لبنان ألا يستقوي الرئيس الجديد على أي منهما، وألا يخرج عن طوع اي منهما في السياسة.

ولصعوبة توافر هذه الصفات جميعاً في أي مرشح رئاسي، يبدو أن اللبنانيين محكومون مرة أخرى بتحكيم البطريرك الماروني في هذا الأمر وجعل كلمته هي الكلمة الفصل في هذا الاستحقاق.

عام 1988 اختلف الموارنة وانقسموا في ما بينهم على شخصية الرئيس الذي كان مقرراً أن يخلف أمين الجميل في قصر بعبدا. أما اللاعبون الإقليميون فرموا ورقة الأسماء التي اقترحها بطريرك الموارنة في أدراجهم وقرروا نيابة عنه وعن الموارنة شخصية الرئيس. وكان ما كان من حوادث أوصلت البلد إلى هذه المحنة. وقد يكون من فضل هذه المحنة الطويلة أنها جعلت اللبنانيين جميعاً يدركون أنه لا مفر من تحكيم البطريرك في هذا الأمر؛ ففي تحكيمه ضمان للجميع من الاندثار نتيجة لحرب أهلية أو تطلُّب هيمنة خارجية.

* كاتب لبناني

back to top