سورية: من الوطن إلى الساحة

نشر في 12-09-2007
آخر تحديث 12-09-2007 | 00:00
 بلال خبيز

لم يتوقف الزمن العربي في انتظار عودة سورية إلى الحظيرة طائعة راضية، بل إن الموقع الجغرافي الذي لطالما تغذت سورية من ريعه، أصبح اليوم موقعاً هامشياً، لمصلحة تنامي دور أردني لم يعد خافياً على كل عين بصيرة.

لا يمكن للمراقب اليوم أن يقيم وجه شبه بين الغارة الإسرائيلية على موقع عين الصاحب قرب دمشق في العام 2004، والاختراق الذي قامت به مقاتلات اسرائيلية للمجال الجوي السوري في الأسبوع الماضي. ربما يكون وجه الشبه الوحيد هو في طبيعة الرد السوري الإعلامي، ففي المرتين تمثل الرد بهجوم صحفي منظم على العرب الذين لا يحركون ساكناً حيال العربدة الإسرائيلية في الأجواء السورية، وإعلان رسمي سوري بأن سورية تحتفظ بحق الرد في الوقت المناسب. وفي ما عدا هذا الثابت السوري لا شيء في حدث الأمس يشبه ما حدث في الماضي.

ففي العام 2004، كانت سورية لاتزال لاعباً اقليمياً يحسب له ألف حساب، وكانت سياساتها الإقليمية مثمرة ومجزية على مستويات متعددة؛ نفوذها في لبنان كان بلا منازع، وتدخلها في العراق كان لايزال في طور محاولة الاستثمار السياسي، ولم تكن أيضاً وفي الأساس محاصرة بمحكمة دولية يجري العمل فيها على قدم وساق. لكن الأهم من هذا كله، أن النظام السوري في العام 2004 كان ضرورة إقليمية لخصومه وحلفائه على حد سواء. فلم تكن ترمش عين في لبنان من دون إذن المخابرات السورية، وغني عن البيان أن لبنان يشكل ساحة تجاذب مناسبة للدول والقوى الخارجية كافة المهتمة بمنطقة الشرق الأوسط.

فلبنان كان ولايزال مفتوحاً لكل رياح الخارج، ولكل قوة فيه حصتها من النفوذ التي تكبر أو تصغر بحسب السياسات وموازين القوى، ومن ناحية ثانية كان النظام العربي يريد المحافظة على الاستقرار السوري وعدم تحويل دمشق إلى بغداد أخرى، فيما كانت إسرائيل تطمئن إلى جارها الأهدأ على الجبهة والأصخب لفظاً، ولا تريد المغامرة بفوضى على حدودها تشبه الفوضى اللبنانية وقد تفوقها خطراً. وحتى ذلك الحين كان الأميركيون والفرنسيون يجددون عقد الإيجار اللبناني للشاغل السوري من دون أمل لبناني في تغير الأحوال والأوضاع الدولية التي تسمح لهذا البلد الصغير بنيل استقلاله الكامل.

في لبنان كان «حزب الله» موضع إجماع وطني لا شقوق فيه، وكان الإنجاز الذي حققه يكاد يبدو كما لو أنه المقوم المستجد والأكثر أهمية من مقومات الهوية اللبنانية الحديثة. ولم يكن يمكن تجاوزه سياسياً، ليس بسبب قدراته العسكرية، بل بسبب إنجازه الوطني الكبير. وبالمثل فإن حركة «حماس»، التي تتخذ من دمشق مقراً لقيادتها الخارجية، كانت لاتزال حركة مقاومة لم تلوثها السلطة ولا دخلت في آتون الاقتتال الفلسطيني الداخلي.

أما إيران فكانت لاتزال قادرة على استثمار المقاومة السنية في العراق لمصلحة التعاون الشيعي مع جيش الاحتلال الأميركي، ما يعني أن النفوذ الأمني السوري في العراق كان حاجة إيرانية ملحة، على نحو ما كان النفوذ السياسي والأمني في لبنان وفلسطين حاجة إيرانية ملحة.

اليوم يبدو المشهد مختلفاً كثيراً. الفلسطينيون منقسمون وهم على أبواب حرب أهلية يملك فيها الطرفان كل مقومات القوة والدعم الخارجيين. والأمر نفسه ينطبق على اللبنانيين المنقسمين بين تهمتين: العمالة لأميركا والعمالة لإيران وسورية. مما يعني أن الإنجاز الأميركي الأكبر بات متمثلاً في انحياز شعوب بكاملها لمشروع الولايات المتحدة في المنطقة. ولا يقف الأمر عند حد الانحياز فحسب، بل يصل إلى حد الاستعداد لخوض الحروب الطاحنة مع خصوم المشروع الأميركي في المنطقة، أيضاً، مثلما هي الحال في الأنبار بالعراق، ومثلما يتوقع أن تصير عليه الحال في لبنان وفلسطين. والنتيجة، بات النظام السوري غير ضروري لأحد، ولم يعد ثمة من أوراق مخفية يملكها ويستطيع رميها على الطاولة في اللحظة المناسبة لإحراج الجميع.

في الأثناء، لم يتوقف الزمن العربي في انتظار عودة سورية إلى الحظيرة طائعة راضية. بل إن الموقع الجغرافي الذي لطالما تغذت سورية من ريعه أصبح اليوم موقعاً هامشياً، لمصلحة تنامي دور أردني لم يعد خافياً على كل عين بصيرة، وهو دور يتمتع بالمواصفات الجيوبوليتيكية والاستراتيجية نفسها التي كان الموقع السوري يتمتع بها، خصوصاً بعدما تحول العراق ساحة من ساحات الصراع الفعلي، وبات الحل الفلسطيني ملحاً دولياً أكثر من أي وقت مضى.

لهذا كله يبدو الاختراق الإسرائيلي الأخير مختلفاً نوعياً عن الاختراقات السابقة، وقد يكون مقدمة ناجحة لتحويل سورية نفسها إلى ساحة صراعات دولية وإقليمية.

* كاتب لبناني

back to top