الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات 28: جمعت الهلالية من أفواه شعرائها العظام الذين ماتوا جميعاً
هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول الأبنودي المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.
في البداية لم يبد الأبنودي متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في أبنود قبل أن يكون هناك سد عالٍ. وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها. ثلاثة أطفال يتجولون بين سرادقات «المولد» وباعته، حواته وقراديه، بين لاعبي القمار وبائعي الماء الملون المحلى بالسكر، بين عرافيه ومنشديه. ثلاثة أطفال يستوقفهم صندوق خشبي ساذج، تغطيه قطعة من القماش المتسخ الرث وداخله صور ملونة لا يربطها رابط، يشاهدونها عبر ثلاث عدسات هي كل ما يتيحه الصندوق من وسائل المشاهدة. هكذا بدأت علاقة الأبنودي بالسيرة الهلالية!يتذكر الأبنودي: «هذا الصندوق الذي يسمى «صندوق الدنيا» يسمى أيضا «السفيرة عزيزة»، اسم مستمد من السيرة الهلالية و«السفيرة عزيزة» هي ابنة «معبد السلطان» حاكم تونس، أحبت «يونس» ابن «سرحان» سلطان بني هلال وسجنته في قصرها وعرضت عليه حبها فأبى لأن الحب حرية وطلب منها أن تطلق سراحه أولا وبعد ذلك يكون القرار له. لم يخلصه من السجن بعد سبع سنين إلا خاله أبو زيد الهلالي. هذه «السفيرة عزيزة» الحكاية، أما «السفيرة عزيزة» الصندوق ففي داخله تتحرك صور ملونة ملفوفة على عصا، يحركها الرجل الذي يشغل الصندوق من الخارج، وللصندوق ثلاث عدسات مكبرة، ولا يبدأ العرض إلا بحضور ثلاثة مشاهدين يدفع كل منهم مليمين (الجنيه ألف مليم) وساعتئذٍ يضع صاحب الصندوق الدكة الخشبية الرفيعة التي يعلقها فوق كتفه على الأرض ليجلس المشاهدون ويبدأ في لف العصا لتدور الصور وتعرض واحدة بعد أخرى والمشاهدون ينظرون - كلٌّ منهم عبر عدسته - وقد غطوا رؤوسهم بالقماشة السوداء التي تكفي لفصلهم عن العالم - رغم رثاثتها - بينما صاحب الصندوق يعلق بصوت رتيب على الصور وهي تمر من أمامهم. أذكر المرة الأولى التي جذبني فيها هذا الصندوق العجيب «السفيرة عزيزة»، وسمعت صاحبه معلّقاً بصوت لا حياة فيه على الصور المختلفة، حتى جاءت صورة «أبو زيد» وسمعته يقول: هذا بطل الأبطال وفارس الرجال زعيم بني هلال «أبو زيد الهلالي سلامة» اللي حربته فيها الندامة، الحربة دخلت من جانب طلعت من جانب، اتفرجوا يا ناس على قتلة أبو زيد للهراس».يفصح الأبنودي أنه منذ تلك اللحظة البعيدة وهو متعلق بالهلالية: «لا أدري كيف رأى زميلاي، الطفلان الآخران، الأمر ولا كيف تأثرا به ولا ماذا فعلت الهلالية بهما، أما أنا فوجدت نفسي مشغولا إلى درجة الاستغراق في هذا العالم السحري الذي انفتح أمامي، أسأل عن «أبو زيد» و«الهراس»، عن الحربة التي شجّت الرأس واخترقته. وأسلمتني هذه الأسئلة إلى السيرة وشعرائها».رحلة ممتدةوعن تطور علاقته بالهلالية يروي الأبنودي: «كنت أذهب إلى مولد سيدي عبد الرحيم القنائي وكان يستمر خمس عشرة ليلة لأجلس تحت أقدام المنشدين وشعراء الربابة وأستمع إلى غناء «الغوازي» وأشاهد فنون المسرح الشعبي، ما أضاف إلى تجربتي في القرية تراثاً هائلاً أهدتنيه المدينة في ذلك «الكرنفال» الذي كان يجمع أصحاب الألعاب الشعبية والغناء والأذكار والمدائح الدينية جميعهم فصرت مهيّأ لأن أكون حارساً على هذه الثروة التي لا يلتفت إليها أحد.ثم تعرفت الى الشاعرين جابر أبو حسين والحاج الضوي والد سيد الضوي والأخير هو الشاعر الذي يقدم السيرة معه في رمضان من كل عام في بيت السحيمي. وبعد أن خضت تجربة الاعتقال قررت أن أبدأ رحلة جمع ملحمة العرب الكبرى «السيرة الهلالية» وأهداني الراحل عبد الحليم حافظ جهاز تسجيل قوياً، كما أهداني كمال الطويل مجموعة من الأشرطة وبجنيهاتي وقروشي القليلة بدأت رحلات الجمع بعد نكسة 1967. بدأت تسجيل السيرة من الأفواه كلها التي التقيتها إلى أن منهجت قضية التسجيل نفسها وصححت مسارها في الطريق. مذاك اتجهت خلف السيرة إلى كل مكان. فإلى السنوات التي أمضيتها أجمعها من أفواه الشعراء والرواة والحفظة العاديين في صعيد مصر، اتجهت إلى «الدلتا» شمالاً وحين انتهيت استطعت الحصول على النصوص السودانية والجزائرية والليبية، كذلك نصوص من على حدود تشاد والنيجر لم أجمعها بنفسي إنما حصلت عليها من دارسين أو من مراكز فنون شعبية، ثم بدأت رحلاتي إلى تونس. يضيف الأبنودي: «اكتشفت أن هذه الملحمة العظيمة «تلبد» في رؤوس البسطاء وضمائرهم واكتشفت أنهم يفسرون ظواهر الدنيا والدين والحياة السياسية المعاصرة بحسب ما قالته تلك الملحمة وما قاله الشعراء القدماء. من هذه اللحظة اتخذت حياتي منحى خاصاً في السعي الدؤوب لاستكمال هذه الملحمة وجمع ما في صدور الشعراء والرواة. وهناك قول شائع أنني أعطيت هذه الملحمة ربع قرن من عمري وفي الواقع أعطيتها أكثر من ذلك بكثير.تكدست لديّ نصوص السيرة ولفّتني حيرة قاسية: ماذا أفعل بكل ذلك؟ ما اضطرني إلى دخول كلية اللغة العربية في جامعة القاهرة التي سبق أن هربت منها في 1959 ولا أنصح أحداً أن «يلعبها بالمقلوب» مثلي، لكني أريد أن أؤكد أن حب الأدب الشعبي يأتي أولاً ليملأ قلوبنا وعروقنا ثم بعد ذلك تبدأ رؤيتنا له بمجهر العلم».يمضي الأبنودي متذكراً: «كنت مؤمناً بأنه يجب إحياء «الهلالية» بالكتابة عنها وتقديمها الى الناس وبأنها قادرة على العودة إلى الحياة، وقد كان، فأنت تجد «الهلالية» الآن علي المسرح وفي التلفزيون، تعقد لها الندوات وتثور المعارك حول صدقية ما قمت به طوال رحلة الجمع والنشر.أقول دائماً: أنا شاعر «كويس» لكن مصر ستنجب ذات يوم من هو أفضل مني بكثير، لكن سوف يذكر لي على الدوام أنني جمعت هذا العمل العبقري الذي أبدعته قرائح شعبنا وحفظته من الضياع». شعراء الهلالية من ذكرياته مع شعراء الهلالية يحكي الأبنودي كيف رأى الحاج الضوي للمرة الأولى داخل مقهى ريفي خال من الزبائن. كان «الحاج الضوي، وهو شاعر من قوص، يمسك ربابته والأبنودي فتى يتردد بين دخول المقهى - الذي لم يكن أكثر من «عشة» من البوص - والبقاء خارجه. وحين دخل اعتبره الضوي جمهوراً وراح ينشد بصوت أخاذ عن «يونس» ودخوله إلى «سوق العصر» في تونس. ولم يكن الرجل يعرف أننا سنصبح صديقين وأني سأزوره في العشة التي كان يقيم فيها، ثم أصحبه بعد 30 سنة من لقاء المقهى هو وابنه سيد إلى تونس، إلى القيروان والحمامات وصفاقس وقابس، ولم يكن يعلم أنه سيرى «سوق العصر» الذي كان يصفه في غنائه كأنه رآه ويعرفه شبراً شبراً! وظللنا معا حتى توفي يرحمه الله عام 1978. يومذاك اتصل بي ابنه سيد ليقول: البقية في حياتك في الحاج الضوي.يوضح الأبنودي: «يعتقد معظم شعراء السيرة الهلالية أنهم ألهموا الشعر إلهاماً فالحاج الضوي حكى أنه سمع ربابة معلقة فوق رأسه على الجدار تعزف وحدها في الهزيع الأخير من الليل لليال متتابعات فعرف أن ما يسمعه هو نداء ليتعلم العزف ويبدأ الإنشاد ويصبح فناناً كبيراً لا تتسع له التعريفات والصياغات الأكاديمية.أما الشاعر مبروك الجوهري - رحل في الثمانينات - وهو من الوجه البحري «النوايجة في محافظة كفر الشيخ» فيحكي كيف رأى في يوم عاصف كتيباً صغيراً تلقي به الريح بين قدميه. كان الكتاب «قصة أبو زيد الهلالي مع الناعسة بنت زيد العجاج» ورأى مبروك أن الواقعة تعني أن عليه تكريس ما بقي من حياته للسيرة. كانت روايته تتميز بتكثيف غير عادي وكان آخر ما قاله على فراش الموت أنه كان يتمنى أن يستمع الناس في الراديو إلى الهلالية كما كان يؤديها».يضع الأبنودي الشاعر جابر أبو حسين في مرتبة وحده فهو «شيخ شيوخ السيرة الهلالية» كما يقول وله أتباع ومريدون. وجابر أبو حسين هو الشاعر الذي قدم الأبنودي روايته للسيرة الهلالية في برنامج بثته «إذاعة الشعب» على مدى عام كامل لمدة نصف ساعة يوميا. كان الأبنودي يبدأ الحلقة بملخص للوقائع وتعريف للأشخاص والأماكن، ثم يقدم شاعره بعبارته المشهورة التي سرت مسرى الأمثال «قول يا عم جابر». وعنه يقول الأبنودي: «لم يكن يعيش مع أهل هذا الزمان، فأهله وأصدقاؤه كلهم ماتوا منذ 800 سنة وهم أبو زيد والزناتي خليفة ودياب بن غانم وغانم الأحمر وغيرهم من أبطال السيرة الهلالية الذين كان يبكي وهو يتغنى على ربابته بمناقبهم ورثائهم. سجلت معه السيرة على مدى ثلاث سنوات كاملة، كنت أذهب إليه في سوهاج 3 أشهر، ثم نستريح 3 أشهر، ثم يحضر هو إلى القاهرة 3 أشهر، وهكذا. وبعد أن أنجزنا العمل وسجلنا روايته كاملة عاد إلى قريته - «آبار الوقف» في مركز «أخميم» - ليموت بعد 3 أسابيع، كأنه أكمل مهمته وصار في وسعه أن يستريح!».يتذكر الأبنودي صياد سمك نحيل، اسمه «أبوزيد» التقاه ذات صيف في «سفاجة» على شاطئ البحر الأحمر وكان خجولا رقيقا، مفتونا بدياب بن غانم لأنه كان - في تعبيره - يمثل أقلية في الحلف الهلالي ويناصر الأقليات. وعدني بلقاء عند عودته من صيد السمك بعد الغروب، لكنه لم يحضر، بل جاء صاحبه ليعتذر عنه لأن الديناميت الذي كان يحمله في قاربه الصغير ليصطاد به السمك انفجر ليحوله وقاربه إلى أشلاء!رواتهايغوص الأبنودي أكثر في الذاكرة البعيدة: «كنت في الطفولة أسمع الهلالية فصولا من شعرائها ومغنيها وشذرات من رواتها. ومن رواة السيرة المغنون الغجر الذين يحترفون الإنشاد في المناسبات وهم لا يبدعون من عندهم إنما يرددون ما يحفظونه. ومن الرواة قسم هم حراس الشعراء والواسطة بينهم والجمهور وبين الجمهور وبينهم. لكل راوية شاعر يتعصب له، يحفظ ما يقوله ويقدمه على غيره ويتولى دعوته. ويعرف الشاعر أنه يحفظ السيرة - وقائعها وأبطالها - فلا يجسر وهو حاضر على الانحراف بها ولا التلفيق فيها. يعرف الشعراء أهمية هؤلاء الرواة ودورهم الأساسي، لذا نراهم لا يذهبون لإحياء الليالي وإنشاد السيرة إلا إذا وجه الدعوة إليهم راوية يعرفونه ويثقون فيه». من هؤلاء الرواة يذكر الأبنودي «أبو عنتر» واسمه الحقيقي سيد غشيمة: «كان يدور في الأسواق راكبا حمارته التي تشبه «شهبة» دياب بن غانم وفجأة يقف ويأمر حمارته أن ترفع قدمها فتطيعه ويقف لإلقاء جزء من السيرة الهلالية، حتى إذا التف الناس حوله وبدا عليهم التلهف لسماعه، توقف وتركهم ومضى فإذا استزادوه نهرهم وربما سبهم وهو يقول لهم: «إذا كنتم تريدون السماع عليكم بدعوة الشاعر جابر أبو حسين فما سمعتموه ليس أكثر من قطرة في بحره وما قلته هو ما يسقط من ربابته!».ومن الرواة من يحفظ السيرة أو أجزاء منها فحسب ليلقيها بين أصدقائه أو جيرانه في الحقل أثناء العمل وربما على رفاق الطريق أثناء السفر».يضيف الأبنودي: «لم أعرف أن الهلالية عمل واحد متكامل إلا حين وقعت في يدي الكتب «المصنوعة» التي كانت تطبع في مكتبات الأزهر - الحي والشارع لا المؤسسة- وبدأت أقارن بينها وبين ما كنت اسمع من شعراء عظام كانوا ينشدون في ذلك المولد.التجارة في طرحة الأموعن رؤية الأكاديميين للسيرة يقول الأبنودي: «أحزن كثيراً حين أسمع الأكاديميين يتحدثون عن الأدب الشعبي وأحس بأنهم لا تربطهم صلة بشعوبهم، كأن الإنسان يمكن أن يتاجر في جلباب أبيه أو «طرحة» أمه! فالطريقة التي يجمعون بها ذلك الأدب والتي يتحدثون بها عنه تنفر وتضع حاجزاً سميكاً بيننا وتلك الإبداعات العبقرية لشعوبنا البسيطة».يتابع الأبنودي: «إن محبة الأدب الشعبي لا يكتسبها الإنسان في الجامعة ولا بعد التخرج ولا يتخذها وسيلة لـ{أكل العيش» أو البحث عن منصب أو كرسي تدريس فالأدب الشعبي قيمة تحبها منذ الصغر، مثلما تحب ضحكة أمك ورائحة أبيك وهو يدخل الدار ويخرج منها ومثلما تحب اللعب والفرحة يوم العيد. إنه عشق لا يفتعل ولا يمكن أن يتحول إلى 1+1=2 إلا إذا كان ممكناً حساب قدر الحزن والفرح في داخلك وتعكير الدم وصفائه، عشق لا يلمس باليد. تستيقظ فجأة فتجد نفسك ممتلئة به، أن تكون جزءاً منه ويكون جزءاً منك، كما تكون فقيراً فتحفظ أغاني الفقراء كلها وهذا أمر يختلف عن ذهابك إلى الفقراء بعد تخرجك بحثاً عن أغانيهم. إن طبيعة العلاقة تحدد وعيك بالأدب الشعبي غير المنفصل عن الفن الشعبي. ولا يقتصر الفن الشعبي على الكلام فحسب بل يضم رقص الفتيات في القرية وتطريز الخرز على طرحهن. إن مغرفة الطعام الخشبية فن شعبي والنقش على جرار الماء وواجهات البيوت فن شعبي والرسوم على الجدران لاستقبال الحجاج فن شعبي وأنواع الأطعمة وطرائق طهوها في البيئات الفقيرة فن شعبي وبناء الأفران والمواقد والاحتفالات في المواسم والأعياد فن شعبي والأدب الشعبي يحتوي كل ذلك ويفهمه ويعتصره ويحتسيه كالرحيق. إن لي خمسة أشقاء لم يهتم منهم بالأدب الشعبي أحد مثل اهتمامي به، لماذا؟ وهناك في محافظة قنا ملايين رحلوا وملايين جاؤوا، استمتعوا جميعهم وأغرموا بالفن الشعبي، لِمَ لم يحاول أحد من تلك الملايين أن يضحي بالوقت والمال سعياً وراء هذه الثروة العبقرية التي تشكل جزءاً أساسياً من الشخصية المصرية والعربية مثلما ضحيت من أجل جمع «سيرة بني هلال؟».يوضح الأبنودي: «الهلالية مرآة حقيقية لعمق القيم الخفية في ضمير الشعب، اجتهدت لجمعها وأصدرت منها المجلدات والأشرطة وأيقظتها لا في مصر فقط فحسب إنما في العالم العربي كله وربما أبعد من ذلك».يضيف: «أن يجتاح الفساد أجهزة الدولة كلها أمر مفهوم في مثل هذا النوع من «السلطات»، أما أن يتسلل الفساد إلى أهل العلم ومن يدعون أنهم علماء ومن تتخرج على أيديهم أجيال فهذه هي الطامة الكبرى. أقول هذا الكلام لمناسبة أن مجموعة من «الدكاترة» وأتباعهم استطاعوا أن يقنعوا اليونسكو بأن هناك - يا عيني - ملحمة عربية ضائعة وممزقة، وأنهم يريدون جمعها وبعثها من جديد والحفاظ عليها وضمها إلى التراث الإنساني العالمي. «قبضوا» أموالاً طائلة بالدولار الأخضر ليجمعوا السيرة الهلالية! وهي السيرة نفسها التي جمعتها من قبل والتي لم يعد حياً على أرض مصر شاعر واحد من شعرائها العظام الذين سجلنا ما لديهم قبل رحيلهم ومن بقي الآن هم بعض الرواة فضلاً عن المغنين الذين يدورون في الأفراح والمناسبات يغنون أطرافاً متواضعة مما استمعوا إليه من أشرطتنا، بل إن هذه الأشرطة تعطى لهؤلاء الرواة لحفظها وإعادة تسجيلها كي تبدو اللعبة محكمة».يقول الأبنودي: «لو سألتهم فسيجيبونك بأن جهد الأفراد (مثلي يعني) لا يغني عن الجهد الأكاديمي المنظم الذي يقوم على أسس علمية... إلى غير ذلك من ألفاظ ضخمة تخفي محاولة التسلل في زحمة التلفيقات بلعبة «شديدة العلمية». ولو سألتهم فيم صرفوا المبلغ؟ يجيبونك بأنهم اشتروا أجهزة متقدمة جداً، لا أعرف لماذا! ويقولون إنهم يدرسون موسيقى الروايات المختلفة وكلاماً كبيراً من هذا وأغلب الظن أنه ليس أمامهم سوى مجلداتي وأشرطتي ولا أدري كيف يقدرون على مواجهة الناس بأنهم يجمعون السيرة مع أن الجميع في مصر والعالم العربي يعرف أنني جامع السيرة الهلالية في مصر؟! ثم إن هناك من جمع السيرة في تونس وفى ليبيا، فلِمَ لا يكون من حق هؤلاء أن يذهبوا إلى اليونسكو مطالبين بنصيبهم من الأموال المخصصة لجمع السيرة؟».انتهى كلام الأبنودي عن السيرة، أو انتهى ما يناسب هذه الحكايات التي لم يكن أصعب من بدئها إلا التوقف عن سردها. ومازالت هناك حكايات أخرى لبدايات الشاعر الذي يصحو كل يوم ليبدأ مع الشمس الجديدة إبداعاً وحباً للحياة. وربما سنحت فرصة أخرى لقص المزيد من الحكايات ومعرفة المزيد من البدايات. أما الآن فأقول مع «حراجي القط» وهو يختم خطابه الأخير إلى زوجته فاطنه أحمد عبد الغفار:دلوقتي تعبت ونفسي أنام لي نص نهار من غير ما يصحيني حد ولا يقل مزاجي علشان أصحى فايق تاني واعرف اقابل الدنيا!