ماء النار... بين التحرير والتحريك
اتخذ كاتب مقال «حرب تحرير لا تحريك» من مقولة بعضهم بأن حرب أكتوبر كانت حرب تحريك للوضع وليست حرب تحرير للأرض منطلَقاً لمقاله وهدفاً لبلاغته وكلامه، وفي الحقيقة، إن تلك المقولة هي من سقط الكلام، وكان الأحرى ألا يلتفت إلى مثل هذه المقولة التي اعتبرها الجميع نسياً منسياً وكلاماً رخيصاً لا يرقى إلى مستوى الحوار. قرأت بالأمس مقالاً يتحدث كاتبه عن حرب أكتوبر «حرب تحرير لا تحريك» وكان من الواضح أن الكاتب ضحية صراع نفسي وأزمة عميقة بين فخره بحرب أكتوبر العظيمة التي يعتز ويفتخر بها كل عربي ومصري ومحاولة تبريره ما حدث بعدها من فشل سياسي أضاع بهجة الانتصار العظيم، وللأسف انعكست تلك الإشكالية التي يعانيها الكاتب في مقاله فآثر الهروب بالهجوم على المعارضين لسياسة السادات بعد الحرب واستخدم في مقاله كثيراً من الألفاظ الخادعة البراقة والعبارات الإنشائية المطاطة التي لا تصلح مرتكزاً لنقاش جدي وصريح، وإن كانت تحتاج إلى تعديل وتنقيح كبيرين. اتخذ الكاتب من مقولة بعضهم إن حرب أكتوبر كانت حرب تحريك للوضع وليست حرب تحرير للأرض منطلَقاً لمقاله وهدفاً لبلاغته وكلامه، وفي الحقيقة، إن تلك المقولة ذكرها بعضهم أثناء مفاوضات فض الاشتباك الأولى التي عرفت بمفاوضات الكيلو 101، وبعد الرحلات المكوكية للسيد هنري كيسنجر، وهي من سقط الكلام- كما يقال- الذي أهمله التاريخ، وكان الأحرى بالباحث ألا يلتفت إلى مثل هذه المقولة التي لم يدافع عنها أحد ولم يذكرها أحد بعد ذلك واعتبرها الجميع نسياً منسياً وكلاماً رخيصاً لا يرقى إلى مستوى الحوار. ولكن لرغبة الكاتب في الخلاص من أزمته الحقيقية في الحيرة بين فخره بحرب أكتوبر العظيمة وتبريره ما حدث بعدها لم يجد سوى تلك الفكرة المهملة والرأي المنبوذ ليجعله ستاراً للهجوم... وتوضيحاً للكاتب وخلاصاً له من أزمته، فإن عظمة حرب أكتوبر وفخر العرب جميعاً بها لا يحتاج إلى دليل أو برهان، فيكفي من عاصرها ذلك الشعور الذي انتاب الجميع بالفخر وفرح الانتماء إلى الأمة العربية التي لقنت إسرائيل درس العمر، أما من لم يعاصرها فحسبه قراءة أي كتاب في الاستراتيجية العسكرية أو السياسية يتحدث عن هذه الحرب ليعرف كيف تمت هذه المعجزة العسكرية ويفخر بها، وما ذكره الكاتب عن النتائج الخمس أمرٌ جليٌ لا خلاف عليه، ولكن لم يذكر أين ذهبت هذه النتائج؟ ومن المسؤول عن ضياعها؟ ولماذا لم يستثمرها العرب كما يجب؟ وخلاصة القول أذكّر كاتب المقال بموقفين –فقط- للإجابة عن الأسئلة السابقة: أولهما على الجانب العسكري، أذكّره بدموع المشير الجَمَسي القائد العسكري الفذ ورئيس هيئة العمليات في حرب أكتوبر الذي ترقرقت في عينيه أثناء مفاوضات الكيلو 101بعدما علم بالاتفاق الذي تم- من دون حضوره- بين السادات وكيسنجر والخاص بتحديد نوع القوات وعددها على الضفة الشرقية للقناة. وثانيهما على الجانب السياسي، أذكّره بحديث السيد مصطفى خليل مع السيد بطرس غالي في أثناء عودتهما مع الرئيس السادات من رحلته المشؤومة إلى القدس حين نظر مصطفى خليل من نافذة الطائرة قائلاً لبطرس غالي «أخشى أن تكون القدس قد ضاعت إلى الأبد»... هذه هي الحقيقة بلا حيرة ولا أزمات نفسية إن حرب أكتوبر هي أعظم وأكبر إنجازات مصر والعرب في القرنين الماضي والحالي، وما حدث بعدها من فشل سياسي في استثمار هذا النصر العظيم هو أكبر مصائب العرب في هذين القرنين. وفي الحقيقة، فإن نصر أكتوبر وما حدث بعده أشبه بالعرس الجميل الذي يبهر ويسعد كل ما فيه من جمال للعروس وفرح للعريس وسعادة للحضور... وفجأة يصاب صاحب الفرح بهوس مفاجئ فيلقي بماء النار على وجه العروس الجميل. بالله عليك ماذا سيتذكر الجميع؛ جمال العروس وسعادة العريس أم تشويه العروس وكآبة العريس وهموم الحضور؟!