أبطال وهميون...وجماهير محبطة!

نشر في 02-12-2007 | 00:00
آخر تحديث 02-12-2007 | 00:00
 أ.د. غانم النجار

هكذا يقودنا إلى الهاوية أبطال وهميون ينتفضون علينا بين الحين والآخر برومانسية مشحونة بأحاديث هي بين الرؤية وأحلام اليقظة ولابأس أن نسبغ على أولئك أوصافاً من خيالنا ونسمي كل واحد منهم المهدي المنتظر.

أعلنت السلطات السعودية إلقاء القبض على عدد من الأشخاص فاق عددهم المئتين، وجاء في الإعلان أن المقبوض عليهم يمثلون عدة خلايا كانت تعتزم القيام بعمليات مسلّحة واغتيالات متعددة ضد شخصيات ومواقع منتقاة، وكان أن ظهر في نفس الوقت تقريباً أسامة بن لادن بشريط صوتي يطالب فيه الأوروبيين بالخروج من أفعانستان وأشياء أخرى.

يبدو أن ذلك المسلسل لا ينتهي، ويبدو أن الطريق إلى القضاء على التطرف الديني الساعي إلى إقامة «دولة الإسلام» المثالية، ومحاربة الكفار في الداخل والخارج لا تنجح فيه المعالجة الأمنية فقط، ولهذا حديث يطول. وربما كانت محاولتنا الحديث عن موضوع الحرم المكي بعد مرور 28 عاماً عليها هي من قبيل محاولة الفهم حتى لا تتكرّر.

فمهما أسهبنا في الحديث عن سذاجة جهيمان وبساطته فإن تلك الحادثة وأسلوب التعامل معها ربما كانت عنصراً فاعلاً في نمو حركات أعلى سقفاً، وأكثر قسوة، منتشرة في أصقاع الدنيا.

في العشرين من نوفمبر 1979 وأثناء أداء الناس لصلاة الفجر في الحرم المكي ألقى فيصل العجمي، خطيب جماعة جهيمان -إن جاز التعبير- خطبة أكد فيها ظهور المهدي المنتظر وقدّم محمد بن عبدالله القحطاني (نسيب جهيمان) وكان من ضمن ما قاله:

«فاعلموا، أيها المسلمون، أنه انطبقت هذه الصّفات كلها على هذا المهدي الذي سوف تبايعون بعد لحظات بين الركن والمقام، وهو موجود معنا الآن، وكذلك أخوكم جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي وهو موجود معنا الآن».

كانت تلك الصفات التي ذكرها العجمي هي أن «اسمه المهدي محمد بن عبدالله، وأن نسبه من قريش من آل البيت، وأنه يخرج في الليل، وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف وأنه يظهر إلى من ملأ الأرض ظلماً وجوراً، فيملؤها قسطاً وعدلاً وأنه يبابع بين الركن والمقام».

وعلى إثر ذلك أغلقت أبواب الحرم وجرت معركة استمرت أربعة عشر يوماً، وكان لذلك المهدي المزعوم أن يلقى حتفه بعد أربعة أيام من تلك الخطبة، وكان أن أُلقي القبض على جهيمان وأتباعه وأعدموا في يناير 1980.

المنطقة برمّتها كانت حينها تزخر بأحداث لا نهاية لها، ولعلّ الكتاب الذي أصدره بول إيردمان بعنوان «ارتطام 1979» «كراش أوف سفنتي ناين» عام 1976 متوقعاً فيه حدوث تغيرات جذرية في منطقة الخليج مركزها إيران والسعودية كان حالة نادرة من كتابات غلب عليها الخيال أكثر من الواقع. وعلى الرغم من أن إيردمان وكتابه تحولا إلى مصاف المشاهير والمبيعات العالية بعد 3 سنوات من صدور الكتاب فإنه كان يتوقع أشياء أخرى. التاريخ والعنوان كانا هما الجاذبان لإعادة قراءة إيردمان حينها، فالكل كان يبحث عن تفسير، حصار للحرم، ثورة في إيران وسقوط الشاه، غزو سوفييتي لأفغانستان واستخدام سياسي للجهاد، واغتيال الرئيس المصري أنور السادات، ثم الحرب العراقية الإيرانية، وتحولت المنطقة إلى قاعدة داعمة ممولة منظمة للمجاهدين حتى ذهب بريزنيسكي مستشار الأمن القومي الأميركي إلى بيشاور باكستان ملقياً خطبةً فريدةً ليعلن دعمه للمجاهدين ويؤكد حرص الولايات المتحدة على عودتهم إلى مساجدهم.

وتحوّلت المنطقة إلى محطة إسناد للجهاد والمجاهدين ضد السوفييت... ودخلت لغة التطرف والتشدد الديني ومنطقهما من النافذة بعد أن ظنّ من ظنّ أنه قد تم القضاء عليها بانتهاء حادثة الحرم المكي.

والمثير للانتباه هنا هو اندفاع نفر من اليسار العربي والقومي ربما في تأييد حركة جهيمان، وهو اندفاع يحمل في طياته حالة شبقية غيبية، وبسذاجة مفرطة من باب «ليس حباً بزيد ولكن كرهاً بعمرو» ولم تخلُ قصيدة الشاعر الكبير مظفر النواب من اختزال ذلك برمزية «يا جهيمان حدق»، بل إن المعارض السعودي المعروف ناصر السعيد الذي كان حينها في بيروت وجدناه مصرّاً على اللحاق بذلك الركب حين أعلن في ديسمبر 1979 تأييده لجهيمان، وأن عدداً من المسلحين قد وصلوا إلى بيروت. وقد ترتب على ذلك الإعلان اختطاف ناصر السعيد بمعاونة أحد قيادات منظمة التحرير الفلسطينية وجلبه إلى السعودية، وتتالت صيحات اليسار الساذج في نفس الاتجاه محاولة إسباغ صفة المناضل على جهيمان الذي كان أبسط من ذلك بكثير.

السذاجة نفسها ربما هي التي أخرجت جماهير عربية بقيادة مفكرين وسياسيين عتاة، يُفترض أنهم يمتلكون قدراً من الحصافة في تأييدهم لصدام حسين عندما غزا الكويت وأسبغت عليه أوصاف البطل المناضل، والمهدي المنتظر.

إنها حالة ملحميّة غيبيّة، تعكس حالة العجز وفق الخيال بل انعدامه ربما، وتعكس حالة الإحباط التي نعيشها، فالأمة تريد بطلاً ممتشقاَ حسامه، يخرج على الأعداء ويبيد منهم مئة ألف بضربة من يمينه ويبيد منهم مئة ألف آخرين بضربة من شماله، ويعيد للأمة هيبتها وكرامتها المفقودة، وهكذا يقودنا إلى الهاوية أبطال وهميون ينتفضون علينا بين الحين والآخر برومانسية مشحونة بأحاديث هي بين الرؤية وأحلام اليقظة ولابأس أن نسبغ على أولئك أوصافاً من خيالنا ونسمي كل واحد منهم المهدي المنتظر.

إنها حالة ذهنية، عاطفية، مرضية ربما، أخرجت العديد من أولئك الذين ركبوا الدين تارة والقومية تارة وغيرها تارة، ولبسوا العمائم تارة والقبّعة تارة والبدلة تارة والجلباب تارة. أعاننا الله على ما هو قادم.

وللحديث بقية...

back to top