عن التاريخ والعرب وإيران

نشر في 13-12-2007
آخر تحديث 13-12-2007 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

حين دوّن العالم الإيراني الشهير أبو عبيدة بن معمر بن المثنى كتاباً بعنوان «مقاتل فرسان العرب» ليخلّد ذكرى العرب والعروبة وفضل العرب على الإنسانية، كتب العالم العربي المسعودي كتاب «مقاتل فرسان العجم» ليرد التحية لأبي عبيدة معمر بن المثنى ويعيد الاعتبار للفرسان الإيرانيين وتاريخهم.

يُعرّف العلماء التاريخ بتعريفات متباينة أحدها يعرّفونه من منطوقه اللغوي وأصله الإغريقي باعتباره «رواية القصص»، وهو أيضاً خزان ذاكرة الشعوب وحافظ وقائع ماضيها، وهو بعد كل ذلك الوسيلة الأكثر شمولية وعمقاً أيضاً لتفسير الحاضر والتنبؤ بالمستقبل. والبشر هم محور التاريخ الذي يتخصّص في رصد أحوالهم وعلاقاتهم إما في حقب زمنية بعينها، أو في إطار رقعة جغرافية محددة، ولأن التاريخ هو «رواية القصص»، يبدو الغوص في التاريخ المشترك للعرب والإيرانيين متعة لا تضاهى ولا تقاوم، خصوصاً في ظل الاحتقان السياسي المستمر بين الطرفين منذ فترة، والذي فرّق بينهما وجعلهما في أحيان كثيرة على طرفي نقيض. شهد الأسبوع الأخير أحداثاً سياسية إيجابية تمثّلت في حضور الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قمّة دول مجلس التعاون الخليجي، وازدياد الحركة الدبلوماسية بين القاهرة وطهران، وهو ما يشير إلى انفتاح عربي شامل على إيران. لا يعني ذلك أن العلاقات بين الدول والمرتكزة على مصالح وطنية يمكن تحسينها بمجرد لقاء، أو خطاب تطمينات أو حتى لفتة دبلوماسية، ولكنّ التاريخ يقدم بالرغم من كل ذلك دروساً ممتازة لمن يريد الاستزادة.

ولدت العلاقات العربية-الإيرانية من رحم الجغرافيا ومن صلب التاريخ، حتى قبل المعارك العسكرية في القادسية وجلولاء وحلوان ونهاوند، التي مهدت لدخول الإسلام إلى إيران. أزاح الإسلام من إيران الشتات الفكري الضارب في المجتمع الإيراني وقتذاك، بعد أن فضّ الاشتباك الناشب بين العقائد الدينية المنتشرة وقتها في طول إيران وعرضها. وثبت دين العرب مبدأ وحدة العقيدة بين الإيرانيين لأول مرة في تاريخهم، فلم يربط بين الإيرانيين قبل الإسلام من آريين وساميين وذوي لغات وعقائد مختلفة سوى القوة فقط التي كفلت للحكام السيطرة. لم يتم التمكين للإسلام بين عشية وضحاها، بل استمرّ الشدّ والجذب نحو أربعة قرون بعد الفتح الإسلامي لإيران، حتى صار الإسلام هو دين الأغلبية العظمى من الإيرانيين. ولكن هذه الفترة الممتدّة أربعة قرون لا تنهض دليلاً سلبياً على اندماج الإيرانيين بالإسلام، حيث أتيحت نفس الفترة الزمنية للنظام الموبدي «الكهنوتي» قبل ذلك، وهو الذي فشل في إيجاد وحدة عقائدية في إيران على أساس الزرادشتية (ديانة إيران القديمة).

فتح الإسلام أبواب التواصل الحضاري مع ثقافات العالم أمام الإيرانيين، الذين لم ينفتحوا قبله بقرون عديدة حتى على أنفسهم، نظراً لتشتّت منظومة القيم والأفكار داخل بلادهم. وحيَّد الدين الجديد «الخرافات الثنوية» التي تحكّمت في إيران قديماً من جرّاء ديانة ماني، التي جعلت التشاؤم ركناً عقائدياً لدى أتباعها، فتغيّرت رؤيتهم للعالم وحضاراته الإنسانية وثقافاته المتنوعة، وفي العمق حطّم الإسلام أساس المجتمع الطبقي الإيراني الذي كان قائماً على أساسين رئيسين هما المال والعنصر، وكانت القوانين والآداب الإيرانية قبل الإسلام ترتكز على هذين الأساسين، وبنى الإسلام مجتمعاً في إيران يرتكز على أساسين مغايرين هما: العلم والعمل. من ناحيتهم انفتح العرب على إيران ولم يجدوا أي غضاضة في اقتباس النظام الإداري للدولة العربية-الإسلامية من النظام الإداري الإيراني، فمنذ عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب تمّ تنظيم الدواوين على طريقة الدفاتر والدواوين الإيرانية القديمة. ونقل العرب العلوم والمعارف من اللغات المختلفة، فكان أول ما ترجم إلى العربية منقولاً من القبطية المصرية واليونانية، ثم نُقل الديوان بكامله على زمن الحجاج من الفارسية إلى العربية.

تداخلت الحضارتان العربية والفارسية في إطار الإسلام وصارتا واحدة، حتى أن العلماء المسلمين صاروا فوق الأعراق والأصول الجغرافية. وبرغم «الشعوبية» التى ظهرت بين العرب والفرس في فترات زمنية قليلة على عهد الأمويين والعباسيين، والتي توغِل في مشاعر العصبية القومية فإننا نجد العالم الإيراني الشهير الثعالبي النيسابوري يجعل مقدمة كتابه «سر الأرب في مجاري كلام العرب» بياناً قوياً لتعلّق الإيرانيين بالإسلام والحضارة العربية-الإسلامية حين يبدأ الكتاب كالتالي: «من أحبّ الله تعالى أحبّ رسوله محمداً المصطفى صلى الله عليه وآله، ومن أحبّ الرسول أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العرب والعجم، ومن أحبّ اللغة العربية عنى بها وثابر عليها. ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه قوة بصيرة وحسن سريرة فيه اعتقد أن محمداً صلوات الله عليه خير الرسل، والإسلام خير الملل والعرب خير الأمم والعربية خير اللغات والألسنة». وفي حين دوّن العالم الإيراني الشهير أبو عبيدة بن معمر بن المثنى كتاباً بعنوان «مقاتل فرسان العرب» ليخلّد ذكرى العرب والعروبة وفضل العرب على الإنسانية، كتب العالم العربي المسعودي كتاب «مقاتل فرسان العجم» ليرد التحية لأبي عبيدة معمر بن المثنى ويعيد الاعتبار للفرسان الإيرانيين وتاريخهم.

ما أحوجنا اليوم إلى قراءة جديدة للتاريخ تلحظ وقائع الماضي، وعينها على إشكاليات الحاضر، ويحدوها الأمل في المستقبل.

* كاتب مصري

back to top