انتصار بيروس
كرست «حماس» تقسيم ما تبقى من فلسطين التاريخية، ولم تعف تل أبيب من مسألة الرابط بين المنطقتين الجغرافيتين فحسب، بل ربما أعفتها من استحقاقات المفاوضات أصلاً.مازالت أصداء المعركة الفلسطينية-الفلسطينية التي انتهت في غزة قبل أسبوع تستأثر بالاهتمام العربي والإقليمي، إذ إنها كرست عملياً هزيمة العرب الكبرى قبل أربعين عاماً بعد أن انتزعت أحد أجنحة ما تبقى من طائر فلسطين الحزين. مشاهد الرصاص والدم الفلسطيني الساخن في شوارع غزة لم تكن على يد المحتلين الصهاينة هذه المرة، بل على يد الفلسطينيين أنفسهم، وهكذا، بعد انتهاء معركة غزة بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بـ «انتصار» الثانية على الأولى وإخراجها من القطاع، أصبحت القضية الفلسطينية في مرحلة تاريخية جديدة. ومرد ذلك أن هذه القضية لم تعد منذ الآن مرتبطة بتحرير ما تبقى من فلسطين التاريخية، أي الضفة الغربية وغزة، بل أصبحنا إزاء «فلسطينَين» يتقاسم السيطرة عليهما «حماس» في غزة و«فتح» في الضفة. صحيح أن جناحي فلسطين كانا معزولين جغرافياً بعضهما عن بعض قبل «معركة غزة»، في حين مثل الربط الجغرافي المطلوب بينهما أرقاً دائماً لتل أبيب أمنياً واستراتيجياً لم يمكنها التملص منه طوال الفترة الممتدة من اتفاقية أوسلو 1993، وحتى قبل «معركة غزة». وفضلاً عن ذلك نجحت المعركة ذاتها في تحقيق هدف لم تستطع إسرائيل تحقيقه لا بالسلاح ولا بالمفاوضات، وهو إخراج المليون فلسطيني من سكان قطاع غزة خارج حدود دولتها. كلنا يتذكر أيضاً مقولات رددها مسؤولون إسرائيليون غير مرة، منهم جولدا مائير، وأخيرا إسحاق رابين في عام 1992 حين قال: «أتمنى أن أصحو من نومي لأجد غزة قد غرقت في البحر»، فغزة شحيحة الموارد، وهي بين أكثر مناطق العالم ازدحاماً إذا حسبنا عدد السكان إلى المساحة. وساهم أداء السيد محمد دحلان المتصادم مع الفصائل الوطنية الفلسطينية المختلفة بما فيها حركة «فتح» نفسها، في إضعاف هيبة السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها محمود عباس؛ وكلنا يتذكر محاولته الانشقاق على الزعيم والرمز الفلسطيني ياسر عرفات في أواخر أيامه، ثم إعدام موسى عرفات في شوارع غزة وصولاً إلى الاستيلاء على أجهزة الأمن الفلسطينية في غزة ومحاولاته المتكررة لوراثة أبو مازن سياسياً. ولكن على الرغم من ذلك لا يمكن تبرير ما فعلته «حماس» بأداء السيد دحلان، فما قامت به «حماس» يتعدى الرد على تجاوزاته ويطال جوهر القضية الفلسطينية. كانت غزة ومازالت معقل حركة «حماس»، التي تعرف جيداً أنها لا تستطيع السيطرة على الضفة بسبب اختلاف الظروف الجغرافية والسياسية فضلاً عن اختلاف الارتباطات السياسية والعشائرية. ولذلك فقد كرست «حماس» تقسيم ما تبقى من فلسطين التاريخية، ولم تعف تل أبيب من مسألة الرابط بين المنطقتين الجغرافيتين فحسب، بل ربما أعفتها من استحقاقات المفاوضات أصلاً. ستدخل سيطرة «حماس» على غزة الحركة ذاتها في مأزق جديد، إذ إن «حماس» الرافضة للدخول في مفاوضات مع إسرائيل لن تستطيع التأثير من غزة على العمق الإسرائيلي الموصول بالضفة الغربية وليس غزة. وبافتراض أنها ستستطيع القيام بعمليات استشهادية داخل العمق الإسرائيلي، وبافتراض أنها ستوقع خسائر إسرائيلية بشرية أكبر مما فعل الفلسطينيون طيلة السنوات السابقة، ولو زدنا على ذلك وافترضنا أنها ستوقع 1000 ضحية، وهو رقم لم يستطع الفلسطينيون تحقيقه منذ قيام الدولة العبرية عام 1948. ماذا ستكون النتيجة؟ بمقارنة هذا العدد من الخسائر مع عدد السكان الإسرائيليين البالغ خمسة ملايين؛ لن تتعدى نسبة الخسائر السنوية نسبة 0.02 في المئة فقط، وهي نسبة لن تجبر صانع القرار في تل أبيب على تغيير خياراته. وبالإضافة إلى ذلك فقد تغير الإطار الذي يحكم العمليات الاستشهادية حالياً عما كان عليه قبل سنوات مضت، ففي السابق كانت هناك قيادة فلسطينية كاريزماتية تحظى باعتراف فلسطيني عارم وإقليمي ودولي عام. وكانت هذه القيادة تقود مفاوضات مع تل أبيب وتستثمر ورقة العمليات الاستشهادية للضغط على الطرف الإسرائيلي لانتزاع تنازلات جغرافية منه في مقابل قدرتها على وقف هذه الهجمات. والآن لا تنوي «حماس» مفاوضة إسرائيل أصلاً، كما إنها لا تستخدم العمليات للوصول إلى تسوية سياسية. باختصار: ضاع الأفق السياسي على مذبح «الانتصار العسكري». تقول الأسطورة اليونانية القديمة أن الملك بيروس أقام مملكة نافست مملكة روما وتغلبت عليها عسكرياً في أحد المعارك، ولكن مقابل خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، فقال بيروس جملته التي حفرت في ذاكرة التاريخ: «انتصار كهذا وسنخسر للأبد». ما أشبه «انتصار» حماس في غزة بانتصار بيروس في الأسطورة الإغريقية القديمة، فهو «انتصار» لا يعني في الواقع سوى هزيمة الإجماع الوطني الفلسطيني. كاتب وباحث مصري