خبرة الإسلاميين في تركيا - دروس مستفادة

نشر في 12-08-2007
آخر تحديث 12-08-2007 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي يحفز النجاح الانتخابي الكبير لحزب «العدالة والتنمية» التركي بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان على التدبر في تجربة الإسلاميين الأتراك ومسارات تطور هويتهم السياسية ودورهم في الحياة العامة، فضلاً عن البحث في التداعيات المحتملة للخبرة التركية على الحركة الإسلامية في عالمنا العربي.

بادئ ذي بدء، يتعين علينا تقرير أن حزب «العدالة والتنمية» يتميز بهوية بينية واضحة تجمع، على صعيدي الخطاب الجماهيري والممارسة السياسية، بين احترام علمانية الدولة التركية والتزام الليبرالية الاقتصادية وديناميات السوق الحر الدافعة بتركيا نحو اندماج غير مشروط في زمانية العولمة من جهة، ورؤى اجتماعية وثقافية وأخلاقية محافظة تعود في الأساس إلى مرجعية الحزب الإسلامية من جهة أخرى.

مكن تعدد طبقات هوية «العدالة والتنمية»، على نقيض أحزاب إسلامية أخرى في تركيا وعلى خلاف مجمل الحالات الإسلامية العربية، من المشاركة في الحياة العامة ببراغماتية وتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام بدايةً في سياق البلديات ثم وطنياً من خلال تشكيل الحكومة منذ عام 2002. نعم لحزب «العدالة والتنمية» التركي مرجعية إسلامية، إلا أنها ليست مرجعية نهائية كلية شمولية تسمو على كل ما عداها وتهمشه. لا يرفع أردوغان ورفاقه شعارات من شاكلة «الإسلام هو الحل»، ولسان حالهم هو أن الرؤى المستندة إلى الموروث الديني وقيمه الأساسية قد تقدم إجابات عن بعض تحديات العمران البشري المعاصر يرتبط قبولها بمدى براغماتيتها وقدرتها على التنافس مع إطارات قيمية وفكرية مغايرة ليس للإسلاميين استبعادها أو إقصاؤها من ساحات الفعل العام.

يصبح التساؤل المهم إذاً هو لماذا تطور «العدالة والتنمية» ليصبح حزب الإسلام أحد الحلول... وليس الحل الوحيد؟ وكيف تمّكن ببرامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية من الخروج بتركيا من متوالية أزمات خانقة تعرضت لها في الثمانينيات والتسعينيات؟

وقناعتي أننا هنا أمام ثلاثة عوامل رئيسة علينا التمعن ملياً بمضامينها ودلالاتها؛ يتمثل العامل الأول في سماح المنظومة السياسية التركية للقوى الإسلامية بالمشاركة بصورة مستمرة ومستقرة في تدبير الشأن العام خلال العقود الماضية، وباستثناء لحظات انقطاع قصيرة نسبياً ارتبطت بتدخلات سافرة للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية.

أما العامل الثاني، وهو في الحالة التركية يتعلق بالطابع العلماني للدولة ودور المؤسسة العسكرية كضمانة نهائية لاستمراره، فيأخذنا إلى محورية الدمج التدرجي للحركات الإسلامية في السياسة، في سياق من القيود الدستورية والقانونية والحركية المفروضة عليها، بهدف دفعها نحو الالتزام بقواعد اللعبة وحثها على تعميق مساحات المرونة في الخطاب والممارسة، ومن ثم تحويلها من قوى رافضة للمنظومة السياسية إلى قابلة لها وفاعلة من خلالها إن كمعارضات شرعية أو كأطراف حاكمة.

أخيراً، تدلل خبرة «العدالة والتنمية» على صيرورة تطور ونضج ذاتي للحركات الإسلامية يدفعها لاستبدال اهتمامها المفرط بالقضايا الأيديولوجية، وتركيزها على صناعة السياسات العامة وتطبيقها بكفاءة عندما تتجاوز مشاركتها في السياسة حدود التمثيل في السلطة التشريعية نحو تحمل مسؤولية الحكم والإدارة؛ سواء على المستوى الوطني أو ما دونه.

لم يتوقع أكثر المتفائلين لدى تشكيل «العدالة والتنمية» لحكومته الأولى في 2002 النجاحات المبهرة التي حققها الحزب داخلياً وخارجياً خلال السنوات الماضية. ولم يثق سوى القليل من المراقبين، وعلى الرغم من السجل الإيجابي لأردوغان ورفاقه في العديد من البلديات، في قدرتهم على تجاوز خبرة التسعينيات الفاشلة لحكومة نجم الدين أربكان الذي خبا نجم أتباعه وتقلص حزبه ليصبح كياناً هامشياً يرفع لافتة «حزب السعادة».

الأهم من ذلك هو أن نجاح «العدالة والتنمية» لا يقتصر على تدبير الشأن العام فقط، بل يتخطاه إلى صياغة نموذج للفعل الحركي الإسلامي؛ منفتح على الحضارة الإنسانية، ومتواصل مع الآخر (غير الإسلامي، والعلماني، والغربي)، ومؤطر في منحنيات هوية مدنية جلية تنطلق من شمولية قيم المواطنة من دون مساومة ولا تقبل الخلط بين السياسة بكونها ممارسة سلمية، والفعل العنفي بغض النظر عن الخطابات التبريرية المصاحبة له. هي إذاً الديموقراطية، كقيم وممارسات، التي تشكل المرجعية النهائية للإسلاميين الأتراك، وتجعل من دورهم السياسي بمنزلة ضمانة كبرى لاستمرارها، وليس تهديدا بالانقلاب عليها.

هل لدينا في العالم العربي مقاربات مشابهة أو على الأقل إرهاصات أولية لها؟ ربما! فاليوم النخب الحاكمة في المغرب والجزائر والكويت والبحرين تسمح للحركات الإسلامية ذات الطابع السلمي بالمشاركة في الحياة السياسية؛ سواء بالتمثيل في السلطة التشريعية فقط (البحرين)، أو على نحو يجمع بين التمثيل البرلماني وبين مشاركات محدودة قائمة أو متوقعة في السلطة التنفيذية (المغرب والجزائر والكويت). تطور الإسلاميين في هذه البلدان الأربعة يبدو اليوم أكثر مرونةً ونضجاً واهتماماً بمداخل تدبير الشأن العام في مقابل تراجع الرؤى الأيديولوجية وخطابات المظلومية، وهنا مناط الأمل. أما الحالات العربية الأخرى، ففيها يستمر القمع الحكومي بواسطة الأجهزة الأمنية من جهة، والمغالاة الإسلامية من جهة أخرى، وتغيب بالتبعية القدرة على إنجاز إصلاحات سياسية أو تحقيق استقرار فعلي نحن الآن في أمس الحاجة إليه.

 

*كبير باحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي- واشنطن.

back to top