الكويت من الإمارة إلى الدولة (2)

نشر في 10-06-2007
آخر تحديث 10-06-2007 | 00:00
يستعرض الدكتور الخطيب في الحلقة الثانية رحلة الدراسة والسفر من الكويت إلى بيروت، ومشقة الطريق آنذاك مروراً بالبصرة ثم بغداد ثم الشام حتى الوصول إلى «انترناشيونال كوليج»، وهي الثانوية التابعة للجامعة الأميركية.
ويتناول الدكتور في تلك الحلقة محطات ومواقف تعرّض لها، خاصة إصابته بمرض «التيفوئيد» في أثناء الرحلة من الكويت، ومحاولة إرجاعه إلى الوطن، لكن تدخل المرحوم عبدالله الفلاح سهّل سفره قبل قرار إعادته.
ويروي الدكتور مشاهدات الطريق ومفارقات طريفة خاصة حين تعطلت السيارة التي تقلهم، وكان الجو بارداً في فبراير، فاقترح صاحب السيارة حرقها لكي يتدفؤوا عليها.
ويستمر الدكتور في عرض ذكرياته وبدايات الصداقات مع عدد من الطلبة الكويتيين والعرب والبحرينيين الذين زاملهم في تلك المرحلة.
 د. أحمد الخطيب الـطـريـق إلـى الجامعة

لم يكن قرار السفر إلى الخارج للدراسة لشاب في الرابعة عشرة من عمره وبوصاية والدة لا تعرف القراءة والكتابة بالقرار السهل. لعلها كانت قوة شخصية الوالدة، وكونها قد تحملت مشقة تربيتنا، وكدحت لإعاشتنا. لعلها إذاً قد رأت في التعليم فرصة لحياة أفضل، أو لعلها رأت فيه تعويضاً عما قاسيناه في حياتنا، وخصوصاً بعد إصابة الوالد. وهكذا لم تمانع في سفر أخي عقاب للدراسة في البحرين، ولا في سفري إلى بيروت. أما أنا فلعلي لم أدرك مشقة الغربة، أو أن إحساسي بمصاب والدي، الذي لم يعالج معالجة صحيحة بعد معركة هدية، وبقي الكسر الكامل ليده اليمنى كما هو دون أن يلتئم، كان دافعاً للسفر لتحصيل العلم والعودة لتعويض والدتنا ما تحملته من شقاء.

هكذا بدأت رحلة السفر للدراسة في بيروت، وزودوني برسالة إلى الجامعة الأمريكية ببيروت تفيد بقبولي بها. أما الوصول إلى بيروت والسفر إلى هناك فلذلك قصة أخرى لا تقل إثارة، ولربما كانت سبباً لعدم وصولي إلى بيـروت، إذ إنه لم يكن أمراً اعتيادياً سفر الشباب وحدهم، فقد تصادف وجود كل من عبدالله عبداللطيف القناعي وخالد المسلم بالكويت، حيث كانا يدرسان في بغداد، وكانا آنذاك يقضيان عطلة في الكويت، فكان أن تم ترتيب سفري معهما إلى بغداد كخطوة أولى. أوصلني خالي زيد الخبيزي للسيارة وأعطاني بعض الدراهم ثم ودّعني. ركبنا السيارة أولاً إلى البصرة ومكثنا هناك قرابة يومين في بيت الصقر حيث لا تتوفر الفنادق. كنت كفتى صغير يغادر الكويت لأول مرة مشدوهاً بالبصرة، المدينة العريقة والمركز التجاري الكبير. كنت مبهوراً بكل شيء في البصرة وكان التجول فيها وكذلك رؤية شط العرب الذي طالما سمعت عنه، أمراً عظيماً ومدهشاً للخارج من الكويت حديثاً. وبعد ذلك ركبنا القطار وتذوقت «القيمر» الذي يباع في المدن التي يتوقف فيها القطار صباحاً، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أحب القطار. ارتبط حبي للقطار بالقيمر.

وصلنا إلى بغداد وكان اندهاشي وانبهاري يتعاظم، فقد كانت بغداد غاية في التقدم بمقاييسنا آنذاك، فكان أن أقمنا عند عبدالعزيز العلي المطوع، كذلك كان في بغداد عبدالله الفلاح، الذي عاد لاحقاًً إلى الكويت ليصبح مديراًً للبلدية، وكان كلاهما يعمل بالتجارة في بغداد. كنت مبهوراً ببغداد: العمارات، السينما، الشوارع والنهر. وعندما كان عبدالعزيز العلي يخلد إلى النوم كان رفيقاي يذهبان إلى السينما، ويبدو أنهما قد تورطا بي بسبب صغر سني وعدم اعتيادي أو معرفتي طبيعة الحياة، فكان لا بد من إشراكي في مغامراتهما حتى لا أفضحهما. فقد حدث أن أخذاني معهما إلى السينما لأول مرة في حياتي، بدأت الفقرة الأولى من العرض السينمائي، التي عادة ما تحتوي على إعلانات وأخبار حرب ثم يكون هناك استراحة وبعدها يبدأ الفيلم. فلما بدأت الاستراحة، أخبرتهما بأنني أريد الذهاب إلى البيت للنوم، وحاولا جاهدين إقناعي بأن الفيلم لم يبدأ كونهما قد دفعا قيمة التذاكر، وأن ذلك يعني خسارتهما إلا أنني «أكلت قلبيهما بالحنة»، وأصررت على العودة، وهكذا عدنا دون مشاهدة الفيلم. مع ذلك أخذاني في مناسبة أخرى معهما إلى ناد ليلي، وهو أمر لم أعرف كيفية التعامل معه في تلك السن الصغيرة، فكان أن حدث الشيء نفسه فقطعت عليهما متعتهما بإصراري على العودة إلى البيت.

التيفوئيد

حدث خلال تلك الفترة المثيرة ما لم يكن في الحسبان، وهي مصادفة أخرى من المصادفات التي شكلت طريقي إلى الدراسة، وفرضته فرضاً على مسيرة حياتي. فمن دون مقدمات أصبت فجأة بالتيفوئيد، وكنت في حالة يرثى لها، ومع ذلك لم يرني طبيب أو معالج من أي نوع. فما كان من عبدالعزيز العلي إلا أن بعث برسالة إلى الشيخ يوسف بن عيسى ينتقد فيها إرسال شاب مريض في البعثة، ويبلغه فيها بأنه من الأحسن أن يعيده إلى أهله في الكويت. وهنا حدثت المصادفة التي يبدو أن الله قد سخَّر فيها لي أشخاصاً ساعدوني وساهموا مساهمة فعلية في تحديد مسارات حياتي وبالذات الدراسية منها.

فقبل أن يأتي الرد من الشيخ يوسف بن عيسى على طلب إعادتي إلى الكويت، جاءني عبدالله الفلاح من دون علم عبدالعزيز العلي ليقول لي: «أنت بين خيارين، الذهاب إلى بيروت أو العودة إلى أمك». فكان ردي مباشراً ومن دون تفكير: «بالتأكيد إني أريد الذهاب للدراسة». فقال: «إذاً جهز حقيبتك وملابسك قبل أن يرحِّلوك إلى الكويت». وأخذني بسرعة وأركبني الباص المتجه إلى دمشق في طريقي إلى بيروت، وأحضر سلة صغيرة بها فواكه وأعطاني إياها قائلاًً «يحفظك الله، في أمان الله». وغني عن القول أنه دفع تكاليف السفر من جيبه الخاص. لماذا قام عبدالله الفلاح بهذا الفعل؟ وكيف تعامل مع تساؤلات عبدالعزيز العلي لاحقاًً؟ لم يكن ذلك يشغل بالي وأنا في طريقي إلى بيروت، فلعلها كانت دعوات السيدة الوالدة هي التي سخَّرت لي رجلاً كعبدالله الفلاح في هذا الظرف الصعب، ولو كنت قد عدت إلى الكويت واستسلمت للمرض لكانت حياتي كلها قد تغيرت، بل لكنت عدت محبطاً، فالحمد لله على كل حال، وجزى الله عبدالله الفلاح كل خير، رحمة الله عليه.

كان مرض التيفوئيد مضنياً، وقد أصبنا به أنا وأختي طيبة في الكويت في الوقت نفسه وتوفيت بسببه. وهو مرض يسميه الكويتيين «أبو دمغة»، وتظهر أعراضه بعد عدة أيام من العدوى على شكل حمى شديدة مما يسبب صداعاً حاداً، إلا أن الغريب في الأمر أنه طوال مدة مرضي في بغداد لم يأخذوني إلى طبيب، وهو سؤال لم أجد له إجابة شافية. وقد تعافيت من المرض لاحقاًً، ولم يخبرني أخي عقاب بوفاة أختي لمعرفته بمدى تعلقي الشديد بها، وكنت أرسل إليها الرسالة تلو الرسالة، أحثها على التميُّز في الدراسة للالتحاق ببيروت، وكنت أستغرب عدم ردها حتى أنني غضبت من ذلك التجاهل، ولم أعرف أنها توفيت حتى عدت إلى الكويت بعد سنتين وأربعة أشهر تقريباً، وكانت صدمة كبيرة لي.

وهكذا انطلقت إلى بيروت وحدي، أنا الفتى ذا الرابعة عشرة والمصاب بالتيفوئيد، وكانت رحلة عذاب في الصحراء. كان ذلك خلال شهر فبراير، طقس قارس البرودة، ومع ذلك كنا نشاهد الغزلان تمرح وتسرح في الطريق، وبعد ثلاثة أيام وصلنا «أبو الشامات». كانت السيارة «تعبانة» تمشي نحو ربع ساعة ثم نتوقف للتصليح نحو ساعتين، يعني أننا قضينا الطريق في إصلاحها. أما أغرب اقتراح طرح لمعالجة ذلك الوضع، وفي وسط البرد الشديد، فقد جاء من سائق السيارة العراقي، الذي اقترح على الركاب ذات ليلة أن يحرق السيارة لكي نتدفأ بها، لكن الركاب اعترضوا عليه وعنّفوه، ويبدو أنه كان جاداً من طريقة الحوار الذي دار أمامي، فقالوا: وبعد حرق السيارة ماذا سنعمل؟

وصلنا «أبو الشامات»، وهي مركز الحدود السورية العراقية، وكان الذين يقومون بالتفتيش فرنسيين. كانت الأجواء تسيطر عليها ظلال الحرب، ولذا كان التفتيش دقيقاً وشديداً. كنت أحمل معي رسائل إلى الطلبة الكويتيين في بيروت من أهاليهم، وأثناء تفتيشي وجدوا الرسائل فأخذوني للاستجواب، اعتقاداً منهم أنني جاسوس، دون أن يكترثوا لكوني فتى صغيراً. إلا أنهم بعد قراءتهم الرسائل، أعادوها إلي وأطلقوا سراحي. وأخيراً وصلنا الشام بعد رحلة شاقة طويلة مضنية، ويدور في ذهني سؤال لم يسعفني خيالي في الإجابة عليه، وهو ماذا لو تمكن سائق السيارة من تنفيذ اقتراحه بإحراق السيارة للتدفئة كما قال.

طريق الثلوج

وأسكنت في الشام في فندق وحدي، ويبدو أنه كان هناك ترتيب مع شركة النقل المتحدة بأن يقوموا بإيصالي إلى الجامعة الأمريكية في بيروت. قمت في الصباح الباكر، وبعد أن أفطرت وظللت أنتظرهم عند باب الفندق الذي كان موقعه في ساحة المرجة، وأثناء وقوفي هناك شاهدت شيئاًً عجيباً لم أشاهده قط في حياتي، كان ذلك الشيء العجيب هو «الترام». كانت عربات «الترام» عندما تمر في ساحة المرجة تعطيك انطباعاً بأنها تدور داخل الساحة بصورة انسيابية جميلة. كان بعض تلك الناقلات العجيبة يدخل والبعض الآخر يخرج من الساحة، فإذا لم تكن لديك ملاحظة قوية، فإنك تتصور أن تلك العربات تدور ولا تخرج من الساحة أبداً. وشيئاًً فشيئاًً دخلت في اللعبة ووجدتني أتعامل مع تلك الناقلات العجيبة فعلاً كلعبة مسلية، وفي غمرة ذلك الاستغراق خطرت ببالي فكرة أن أتسلى بها حتى يأتي الشخص المعني الذي سيقلّني إلى بيروت، خصوصاً أنني كنت قد ظننت أن «الترامات» تدور في الساحة نفسها. وفي اللحظة التي هممت فيها بوضع قدمي في الترام وجدت من يسحبني من الخلف ليمنعني من الركوب، وإذا به الشخص المكلف بنقلي إلى بيروت. كان التوقيت جيداً، فلو تأخر لكنت قد ركبت وما عرفت كيف أعود إلى مكاني لأنني لم أحفظ اسم الفندق أو الساحة التي كنت فيها. مصادفة أخرى من تلك المصادفات الغريبة ربما.

هكذا ركبنا السيارة متجهين إلى بيروت، وكانت عيني مشدودة إلى الطريق، مشاهد غريبة ومفاجئة بالنسبة إليّ. فقد شاهدت الجبال تكسوها الثلوج ومناظر خلابة لم أشاهدها في حياتي من قبل. ها أنذا أدخل عالماً آخر، لا علاقة له بما تركته ورائي، شاهدت في طريقي كل شيء، لا بل كل ألوان الدنيا ومياهها، من أخضر وأزرق وأبيض، طبيعة متنوعة، وأنا قادم من صحراء وبحر فقط. إنها دنيا جديدة بكل معنى الكلمة ولعله لم يكن أفضل وأبلغ دلالة من الطريق الذي سلكته من الكويت مروراً بالعراق، وقوفاً بدمشق وانتهاء ببيروت.

وصلنا «إنترناشنال كوليج» وهي مدرسة ثانوية داخلية تابعة للجامعة الأمريكية، وبدأت حيرتي وتخوفي اللذان رافقاني طوال الرحلة بالاسترخاء بعض الشيء، حيث وجدت وتعرفت على الطلبة الكويتيين الساكنين في «الكوليج». وقد واجهت أول ما واجهت مشكلة التباين في النظام التعليمي، إذ يتم تأهيل الطالب باللغة الإنجليزية لكي يلتحق بالثانوية فالدراسة فيها باللغة الإنجليزية، وقد تم فحصي في جميع المواد، فكانت النتيجة أنهم قبلوني في الرياضيات والعربي بالصف الثاني الثانوي، أما بقية المواد فقد قبلوني بالصف الأول الثانوي، أما الإنجليزي فقد قبلوني بالصف الثامن ابتدائي. وإذ إنني وصلت إلى بيروت بعد منتصف السنة، فقد أكملت ما تبقى من السنة بدراسة اللغة الإنجليزية، ومكثت في الصيف لأدرس الأول الثانوي، ولم أرجع إلى الكويت إلا بعد أن أنهيت الثانوية العامة، وكان النظام الدراسي المعمول به هو أنه في حصول الطالب على معدل B+ فما فوق، فإنه يعطى فرصة لدراسة مواد الصف الذي يليه في الصيف، فإن حصل على B+ فما فوق بالدراسة الصيفية، يتم نقله إلى الصف الذي يليه. وبالتالي فإنني تجاوزت صفين بهذه الطريقة وأنهيت الثانوية بسنتين وأربعة شهور، وكان رقماً قياسياً بالنسبة إلى الثانوية.

أزمة مع اليهود

أما أولى المواجهات التي كادت تتسبب في قطعي لدراستي في هذه المرحلة المبكرة فقد كانت بسبب التزامي الصلاة. فقد قررت فعلاً أن أقطع دراستي نهائياً وأعود إلى الكويت، والسبب يعود إلى ما شعرت به من مضايقة بعض الطلاب اليهود القادمين من فلسطين أثناء وضوئي وصلاتي، إذ قدّموا شكوى ضدي لدى أحد الأساتذة، مدعين أنني أسيء استعمال الحمامات أثناء الوضوء، فما كان من ذلك الأستاذ إلا أن استدعاني ووبخني بشدة على ذلك. فوقفت مشدوهاً ولم أستطع الدفاع عن نفسي، وخشيت أن أخسر ديني فأرسلت رسالة إلى أخي عقاب أطلب منه أن يرفع شكواي إلى المسؤولين في الكويت طالباً العودة إلى الكويت. ولكنه لم يفعل، وحسناً فعل. وبعد وقت قصير أصبحت في وضع أفضل لمقاومة هؤلاء بفضل الدعم الذي حصلت عليه من الكويتيين وغيرهم من الطلبة العرب في الثانوية. وفي حفلة خطابية شاركت فيها، كانت المادة التي اخترتها هي خطبة الوداع للرسول محمد عليه الصلاة والسلام كنوع من التحدي، ووفقت في إلقائها، وشكرني على ذلك أستاذ اللغة العربية كنعان الخطيب من سورية لاختياري هذه المادة ولإلقائي الجيد.

كان تفوقي الدراسي وتميزي العلمي سبباً لأن أحظى بمعاملة خاصة من الأساتذة، حتى إن مدير الكلية السيد ليفيت الأمريكي كان يأخذني إلى مكتبه ويعطيني دروساً خاصة في طريقة الوقوف المستقيمة لأنني كنت أقف وأمشي كالأحدب بسبب طول قامتي. وفي إحدى المرات وأثناء درس الإنجليزي، لم أعرف ما هي لعبة الغولف، فما كان من المدرِّسة إلا أن اصطحبتني معها وزوجها إلى ملعب الغولف الذي يلعبان فيه لأتعرف على اللعبة. ولتميزي في اللغة الإنجليزية كان أستاذ اللغة الإنجليزية يدعوني إلى شاي العصر في بيته مع قلة من الطلبة منهم عبدالله يوسف الغانم، بدل حضور صف اللغة الإنجليزية.

ومع أني كنت أمارس جميع أنواع الرياضة إلا أنني تميزت في لعبة كرة السلة وعينت في فريق الكلية الذي ينافس المدارس اللبنانية الأخرى. وكذلك كنت الأول دائماًً في سباق المسافات الطويلة (Cross country) والجائزة هي صندوق من «الأفندي»، وبرزت أيضاً في الملاكمة، وكنت أمثل الكلية في مباريات كرة السلة والملاكمة.

كان صفي الأخير بالثانوية الرابع (ب) يعد من أكثر الصفوف شغباً ويسموننا الطلاب الشياطين، لذلك لمّا تخرجنا في الثانوية ودخلنا إلى الجامعة رافقتنا توصية بأن لا نوضع في صف واحد بل نوزع على بقية الصفوف، وهكذا كان.

أما في الكويت فقد كان التعليم يمر بمرحلة خطيرة تمثلت في الضغوط الإنجليزية لإقالة عبداللطيف الشملان كمدير للمعارف، وقد نجحت للأسف لاحقاًً في 28 نوفمبر 1943 بطلب من المستشار البريطاني ويكلين الذي عيَّن المدرس المصري علي هيكل بدلاً من الشملان. وكان عبداللطيف الشملان عندما عُيِّن مديراًً للمعارف قد رأى إقبال الطلبة على الدراسة، وبالمقابل رأى العجز المالي عن تلبية طلباتهم، كما عايش ترك البعثة التعليمية الفلسطينية التدريس بعد أن خفضت رواتبهم إلى النصف بسبب ظروف الحرب، وعجز المشرفين على المدرسة المباركية عن توفير المتطلبات المالية لتسيير الدراسة، فما كان منه إلا أن سافر إلى القاهرة للقاء الدكتور طه حسين أستاذه لمّا كان طالباً، وكان آنئذٍ مستشاراً لوزارة التعليم المصرية، طالباً منه المساعدة لأنه كان يحث طلبته على العلم. وشرح له الأوضاع في الكويت، فما كان من طه حسين إلا أن وافق على إرسال مدرسين مصريين إلى الكويت على حساب الحكومة المصرية. وهكذا ازداد عدد الأساتذة في الكويت، وأمكن التوسع في مجال التعليم، مما أزعج الإنجليز، فاتهموا عبداللطيف الشملان بالإخلال في اتفاقية الحماية البريطانية بالاتصال بدولة أجنبية، وطلبوا من أحمد الجابر إقالته، إلا أن أحمد الجابر أبقاه في الكويت موظفاً في الحكومة بعد إقالته. ثم عُيِّن الشملان مشرفاًً على طلبة الكويت في القاهرة، ثم أميناً عاماً لمجلس الوزراء في الكويت خلال حكم الشيخ عبدالله السالم.

وبعد فترة قصيرة زارني ويكلين في بيروت، وأخذني إلى بناية يسكن فيها بعض الطلبة الذين يدرسون على حساب المعهد الثقافي البريطاني، لأطلع على الامتيازات التي يتمتع بها هؤلاء، والخدمة الممتازة التي يحصلون عليها، مثل شاي بعد الظهر على الطريقة الإنجليزية، علاوة على الوجبات الثلاث وإمكانية الذهاب إلى السينما في أي يوم.

وكنا في الثانوية لا يُسمح لنا بالخروج من الكلية سوى مرة واحدة في الشهر، عصرية يوم السبت، وقال ويكلين: الأحسن لك أن تنتقل إلى هنا وتكون على حساب المعهد الثقافي البريطاني، بدل أن تكون على حساب حكومة الكويت. ومع أن العرض كان مغرياً، إلا أنني رفضته قائلاًً: أفضل أن أدرس على حساب حكومتي، فلم يعجبه ذلك. وقبيل انتهاء الدراسة وبدء العطلة الصيفية، أرسل إلـيّ أخي عقاب رسالة من الكويت يقول فيها إنه تقرر أن تنقل إلى مصر للدراسة هناك، وإن ويكلين أقنع المسؤولين في الكويت بالقبول بهذا القرار، وإنه سوف يمر عليك ويأخذك معه إلى مصر، وكان عليّ أن أغادر إلى الكويت فور انتهاء الامتحانات وظهور النتائج. وعندما وصلت إلى الكويت علمت بأنه سافر إلى لبنان لتنفيذ قراره، واتصلت بنصف اليوسف النصف وقلت له: لماذا أنقل من بيروت وأنا أعد من الطلبة المميزين؟ وكنت قد حملت معي كل نتائج امتحاناتي. استطعت أخيراً إقناع المسؤولين ببقائي في الجامعة الأمريكية لاستكمال دراستي.

ويكلين كان يريد أن يكسبني لأدور في فلكه ولمصلحة دولته، وكان يخشى أن أتأثر بالجو السياسي النشيط في بيروت والجامعة إذا خرجت من المراقبة. ولكنه استمر في محاولاته فصار يقتّر عليّ في المصاريف مما سبب مضايقات عدة. فمع أن المعيشة في لبنان أغلى من مصر إلا أن مخصصاتي كانت أقل بكثير من مخصصات الطلبة في مصر، مما جعلني أرسل رسالة إلى أخي عقاب في الكويت في 1/4/1943.

« أخي العزيز تحية وسلاماً،

لقد وصلتني البدلة التي أرسلتموها إليّ، والحقيقة أن بدلة واحدة ليست كافية، ولكن صبراً، فإذا لم أتوجه نحوكم هذه السنة (أي بعد شهرين وخمسة أيام) الرجاء منك أن تخبر مدير المعارف بإرسال ملابس صيفية إليّ لأنني لا أملك شيئاًً من الملابس الصيفية.

لم ترسلوا إليّ قمصاناً وغيرها مما أحتاجه، لذلك سأضطر أن أشتريها بنفسي، فلذلك فالدراهم التي أرسلت لم تكن كافية. فاطلب من مدير المعارف أن يرسل بعض الدراهم ولكم مزيد الشكر.

أرجوكم إخبار محمد الفوزان بأن سبب تأخري في إرسال الكتب هو عدم وجود كتاب (بناء الإنسانية) فأنا بانتظار هذا الكتاب وسوف أرسلهم في أقرب وقت ممكن.

أرى أن إدارة المعارف عندكم قد أهملت أمري، فلا أستطيع أن أحصل على ما أريده من حاجات أولية في الأهمية لأنني لم أسأل أو أطلب أي شيء من مال، فما دامت إدارة المعارف قد أهملتني فأنا أريد الشروط التي اتفقنا معهم بها، فأرجوكم أن تأخذوها من عندهم لنطبقها تماماً ولا تخافوا من أية مسألة أو من أي شيء آخر فإنني أستطيع أن أطبق جميع الشروط التي هي عليّ ومن ثم أجبرهم على أداء واجبهم نحوي. فإن لم ترض إدارة المعارف أن تعمل هذا أخبروني حالاً لكي أحاول أن أضع إصبعي في مسألة البعثة الذاهبة إلى مصر لعلّي أخفف عن إدارة المعارف بعض الأتعاب وأستريح أنا قليلاً، ولكم مزيد الشكر، ولكن أرجوكم أن تبذلوا جهدكم بأن أبقى في الجامعة وتحصيل بعض حقوقي من إدارة المعارف، لأن الجامعة أحسن بكثير من الذهاب إلى مصر، وأنا سوف لا أذهب إلى مصر إلا إذا اضطرتني الحالة.

وسلامي إليكم جميعاً وسلام خاص للوالدة العزيزة.

ملحوظة: الرجاء تنفيذ ما في هذا المكتوب بسرعة عاجلة.

أمام هذا الإزعاج المستمر أثرت هذه المشكلة مع نصف اليوسف النصف الذي نقل شكواي إلى الشيخ عبدالله السالم، وكان آنذاك مسؤولاً عن الصحة، فقرر نقل نفقاتي إلى حساب إدارة الصحة ما دمت أدرس الطب. وتحسن وضعي بعد ذلك كثيراً، وكنت أول طالب يرسل بعثة عن غير طريق إدارة المعارف. ووقّعت عقداً مع الصحة يلزمني بالعمل بالصحة للمدة نفسها التي أقضيها بالدراسة. وأثناء مرضه الأخير عام 1965 قال لي عبدالله السالم مداعباً: لقد أخللت بالعقد يا أحمد، ما كملت مدة العقد. فقلت له: كلها كانت ثلاثة أشهر باقية فضحك لأنه كان يعلم ظروف تركي إدارة الصحة.

الجامعة الأمريكية

كان للجامعة الأمريكية تأثير كبير في حياتي ومنهجية تفكيري، ولعل أبرز ما يميز الجامعة الأمريكية ببيروت كون جسمها الطلابي حاضناً لخليط لا ينتهي، وتنوع لا حد له من الطلبة العرب وغيرهم من الأجانب، مسلمين ومسيحيين ويهوداً وربما ديانات أخرى. أما سنوات الدراسة، فكانت أجمل مراحل العمر، ففي تلك الأيام تكون الفرصة لخلق الصداقات، والتعرف عن كثب على نماذج بشرية مختلفة، والعيش معها وفهم طبيعتها ومشكلاتها وأحلامها، مما يجعل الفكر أكثر انفتاحاً للتعاطف أو حتى للخلاف الأخوي بعيداً عن العداء والنفور، فكانت الألفة والصداقة تتخطى الحواجز والفروقات الطائفية والدينية والسياسية. ودامت هذه الصداقة حتى بعد أن تبلورت الاتجاهات السياسية عند الطلبة وظهرت مجموعات سياسية متباينة من قوميين عرب وقوميين سوريين وبعثيين وكتائب وشيوعيين. ومع أن الصراعات بين هذه المجموعات كانت قوية إلا أنها بشكل عام لم تفسد هذه الصداقة التي بقيت حتى أيامنا هذه.

وقد كان من الطبيعي أن تبدأ تلك الصداقات في المرحلة الأولى بالثانوية مع الكويتيين الموجودين في الثانوية أو «الكوليج»، وأذكر منهم مرزوق فهد المرزوق، وعبدالله يوسف الغانم، ويعقوب يوسف الصقر وعبدالوهاب حمد الصقر، وجاسم محمد الغانم، وخالد ثنيان الغانم، وخليفة الغنيم، وعبداللطيف القطامي. وما لبثت دائرتنا تلك أن توسعت لتشمل طلاباً من السعودية والبحرين، حتى إننا شكلنا فريقاً لكرة القدم سميناه «فريق الجزيرة» وكنت حارس المرمى فيه.

وكان من بين طلبة البحرين الشيخ حمد الخليفة، ولكنه لم يكن ملتزماً في الدراسة الثانوية، وكان صديقاً مرحاً كطبيعة البحرينيين الموجودين في الثانوية، أمثال يوسف الشيراوي وعلي كانو، وجاسم فخرو.

لم يكن حمد موفقاً في دراسته فذهب إلى أمريكا، إلا أنه كما يبدو، انغمس في جو آخر شجعه على ذلك كونه أميراً في أمريكا في ذلك الوقت، لما لذلك اللقب من جاذبية آنذاك، فألهى نفسه بالقنص وصيد الغزلان البرية، إذ كان يرسل إليّ صورة مع ما يصطاد من غزلان.

وقد دعاني مرة لزيارته في البحرين، فذهبت مع أخي عقاب على الباخرة «دمرا»، وهي مخصصة للركاب فقط، وقد استغرقت الرحلة نحو 19 ساعة. وكان أكلنا اثناء الرحلة أرزاً أبيض ومرقاً هندياً حاراً (كري)، ويبدو أن الفلفل الأحمر في الهند قد أفرغ في جدر (قدر) الباخرة، وكنا مضطريـن للأكل فلا خيار لنا.

عندما وصلنا إلى البحرين وقفت الباخرة بعيداً عن الساحل لضحالة المياه هناك وتقدم إلينا «لنج» (زورق) يحمل العلم البحريني وعليه بعض الشرطة وطلبوا من قائد الباخرة أن يحضر لهم أحمد الخطيب. سلموا علينا، أنا وأخي، وأخذونا إلى مقر حاكم البحرين. سلمنا عليه فقال: من منكم أحمد الخطيب؟ فقلت: أنا. فقال: أنت أرسلت برقية إلى حمد الخليفة ونحن عندنا ثلاثة بهذا الاسم فأيهم تعني؟ فقلت لهم الشيخ حمد بن محمد آل خليفة الذي درس معي في الجامعة الأمريكية. فأرسل من يحضره، وأخذ يسألني عن أبناء عمومته من آل الصباح، ولم أكن أعرف حينها أحداً منهم فتولى أخي عقاب الرد عليه. ولما وصل صاحبي حمد أخذنا معه واستضافنا عند أخيه الأكبر في بيته.

قضينا وقتاً ممتعاً أثناء فترة الضيافة، وتعرفنـا عن كثب على كرم أهل البحرين ومحبتهم، واستمتعنا بالجلوس في حديقـة الضيـف، حيث يمر فيها جدول صغير من عين «عـذاري»، يغذي الأشجـار الكثيرة حولنا مما لطّف الجـو الحار.

لم يعش حمد طويلاً فقد توفي في حادث سيارة، وخسرت صديقاً عزيزاً في وقت مبكر. أما أخوه الأصغر عبدالعزيز، فقد عمل فترة من الزمن مديراًًً للشرطة، كما أذكر، وانقطعت كل صلاتي بالبحرين. وفي عام 1973 عندما أجريت الانتخابات البرلمانية في البحرين، وكان أن فاز فيها بعض الأصدقاء قررنا نحن الأربعة في مجلس 1971 (أنا والمرحوم سامي المنيس وأحمد النفيسي وعبدالله النيباري) الذهاب إلى البحرين لتهنئتهم وإطلاعهم على نهجنا الجديد في معالجة مشكلات البلد، إلا أن وزير خارجيتنا آنذاك، الشيخ صباح الأحمد أخبرنا بأن السلطات هناك لن تسمح لنا بدخول البحرين، ونصحنا بعدم الذهاب كي لا تحدث مشكلات لا فائدة منها.

ولم يتسنَّ لي أن أزور البحرين مرة ثانية إلا عـام 2002، بدعوة من بعـض القـوى الوطنية الصديقة في البحرين، وكان ذلك بعـد مجيء الملـك حمـد آل خليفة وبدء عملية الإصلاح. وقد التقينا الملك لمدة ساعـة ونصـف، وبحضور بعض القوى السياسية البحرينية، وكان أن جرى بيننا حـوار في منتهى الصراحة وتأملنا خيراً للبحرين وأهلها، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهـي السفن!

إلا أني لا أزال متفائلاً بأن أهل البحرين سوف يجتازون كل الصعاب ويبنون مستقبلاً زاهراً ، لأن أهل البحرين في منتهى الطيبة والنقاوة ويستأهلون كل خير.

والواقع أن صداقاتي في الجامعة الأمريكية لم تقتصر على تلك الدائرة فهي آخذة بالاتساع شيئاًً فشيئاًً، فقد أصبحت لنا صداقات مع بقية الطلبة على اختلاف مذاهبهم من مسلمين ومسيحيين بمن في ذلك صديق يهودي من البصرة اسمه إبراهيم مراد. كذلك كان في لبنان أيضاً خالد سليمان العدساني سكرتير المجلس التشريعي الذي تم حله عام 1938، وهو خال مرزوق فهد المرزوق، بعد أن هرب من الكويت إثر ملاحقة أعضاء هذا المجلس من قبل النظام. وكان يدعونا على الغداء الكويتي في بيته بالدكوانة أو عندما يصيف في برمانا، ومنه بدأنا نهتم بالوضع السياسي بالكويت، وكان مرزوق فهد المرزوق أكثرنا التصاقاً وتأثراً به. وعندما كتب خالد العدساني كتابه الصغير الهام بعنوان «نصف عام من الحكم النيابي بالكويت» قام مرزوق فهد المرزوق بنقله إلى الكويت وتوزيعه مما أدى إلى ملاحقة السلطات له، ولكن صغر سنه ووضعه العائلي أنقذاه من غضب الشيخ عبدالله المبارك، رئيس دائرة الأمن العام.

جولة في سورية

في إحدى العطل المدرسية - الربيعية - قررنا أنا ومرزوق فهد المرزوق وآخرون لا أتذكرهم أن نتعرف على سورية فقمنا برحلة نتجول في بعض المدن السورية، ولأن ميزانيتنا محدودة، فقد اعتمدنا سياسة التقشف. ركبنا القطار من بيروت إلى دمشق (أرخص وسائل النقل) وكان القطار يسير ببطء شديد أثناء تسلقه الجبال لدرجة أننا كنا ننزل منه وهو يمشي لنقطف الفواكه التي نمر بها ثم نعود إلى القطار. كانت المحطة الأولى دمشق، وكان الجو بارداً. نزلنا في فندق متواضع به مخبز بالطابق الأرضي مما يساعد على تدفئة الفندق. أما محطتنا الثانية فقد كانت حماه مروراً بحمص، وفي حماه نزلنا في بيت صديقنا زياد الشواف - الذي كان معنا في الصف - وحماه مثل الكويت ليست فيها فنادق وأهلها كرماء يستضيفون في بيوتهم القادمين إلى المدينة، وتمتاز لياليها بالجلسات الأدبية والشعرية. ورأينا فيها «النواعير» التي كانت ترفع مياه نهر العاصي إلى الأراضي المرتفعة لريّها. والعلاقة بين حماه وحمص مثل العلاقة بين الكويت والبحرين، فأهل حمص لهم طبائع أهل البحرين نفسها كما أن أهل حماه لهم طباع أهل الكويت نفسها. وكل مدينة تتندر بطبائع البلد الثانية مثلنا تماماً ولا داعي لذكر التفاصيل خشية أن لا أكون محايداً في مثل هذا الموضوع. وكانت محطتنا الثالثة حلب، واستضافنا صديقنا زكوان الجابري، وعائلته من أغنياء حلب وتمتلك أراضيَ زراعية واسعة، وحاول جاهداً أن يعلّمنا ركوب الخيل ولكن دون جدوى. وهكذا كانت الرحلة ممتعة ومفيدة، في نهايتها بقيت عندنا ليرة واحدة قمنا بقطعها إلى قطع أربع وأخذ كل منا قطعة للذكرى.

جولة في لبنان

كذلك قمت برحلة مشياً على الأقدام مع كل من الدكتور وديع حداد وآمال قربان وأحد أبناء خوري - ابن خالة وديع - من بيروت إلى شاغور حمانا ونهر الباروك ثم بيت الدين إلى مصب نهر الدامور، وقد استغرقت تلك الرحلة أكثر من ثلاثة أيام أو أربعة. وكان وديع مسؤولاً عن الأكل فأحضر معه خبزاً وبيضاً مسلوقاً وبطاطا مسلوقة فقط، وكانت تنهال عليه الشتائم كلما جلسنا نتناول وجبة أكل، وقد كنا ننام في العراء طوال الرحلة. وقد قررنا أن نقطع المرحلة الأخيرة ركضاً، بعد أن سئمنا من أكل البيض والبطاطا. كانت رحلة ممتعة تعرفنا فيها على جمال الطبيعة في لبنان. أحياناً في الصيف أذهب مع د. آمال قربان وأقضي بعض الوقت في بيت والده في مرجعيون الجميلة، وأحياناً أذهب إلى ضيافة د. مصطفى غندور وأخته حياة في عين عناب قرب سوق الغرب، وهذه المنطقة تطل على البحر وبيروت بمنظر بانورامي جذاب. وحتى عندما أسسنا تكتل الشباب القومي كنا نذهب برحلات متفرقة لمعرفة لبنان وكان د. جورج حبش يطربنا بصوته الجميل.

أدب الحوار

ولربما كانت إحدى المهارات والقيم المفيدة التي علمتنا إياها المدرسة هي أدب الحوار حيث يتم طرح موضوع معين للحوار، على سبيل المثال: هل يسمح للمقصف التابع للكلية بأن يبيع السندويشات أم لا؟ فتعين مجموعة مع الاقتراح ومجموعة أخرى ضد الاقتراح، ويعرض كل طرف رأيه في الموضوع، قسم مؤيد يرى في ذلك فائدة والفريق الآخر يرى أن في الاقتراح مضارّ جمّة. وبعد أن يعرض كل فريق حججه، يشارك من أراد من الحضور في النقاش وبعدها يتم التصويت الذي يشترك فيه كل الحاضرين، وتعلن النتيجة ويفوز الاقتراح الذي نال الأغلبية ويصفق الجميع عند إعلان النتيجة ونضحك جميعاً لهذه التمثيلية الجميلة.

هكذا كان يتم تثقيفنا بأدب الحوار، بأدب النقاش، بأدب الخلاف، بالخلاف الأخوي الذي لا يزرع الكراهية، أي بالنقاش الديمقراطي الحضاري لحل الخلافات، بدل الحوار الاستفزازي الحاقد واستعمال الألفاظ البذيئة وتوزيع الاتهامات بالعمالة والخيانة والردة والكفر وإهدار دم الآخرين عندما يعجز الفرد عن الدفاع عن وجهة نظره بالحجج المقنعة.

لا شك في أنه كان لهذه التجربة فائدة كبيرة، إلا أنها ليست كافية، فثقافة الحوار الحضاري يجب أن لا تقتصر على المدرسة فقط بل يجب أن يتولاها المجتمع بجميع مؤسساته الأهلية والرسمية لخلق جيل حضاري يؤمن بالديمقراطية، فالديمقراطية ليست بالانتخاب الحر المباشر وصندوق الاقتراع فقط، بل هي أيضاً تربية وسلوك وتعامل أخلاقي مع الآخرين.

هل استفدنا من هذه التجربة المدرسية؟ ليس كما يجب ربما، لأننا كنا في سن لم نقدر أهميتها، ففي محطات في مسيرتنا لم نتقيد بها تماماً، إلا أن بعض التجارب المريرة التي مررنا بها أظهرت لنا أهميتها الكبيرة.

قام بعض طلبة الصف الرابع الثانوي بإصدار نشرة تطبع على الستانسل (النسخ)، وثمنها (15) قرشاً لبنانياً. وكان الزميل فؤاد بردويل - أطال الله في عمره - يشرف عليها، وكنت من كتّابها الملتزمين والمميزين كما يبدو. والحقيقة أنني نسيت هذا كله إلى أن زارني العزيز فؤاد بردويل في لندن أثناء احتلال الكويت معزياً ومشجعاً ومتعاطفاً، وكان يحمل معه ظرفاً أهداني إياه فوجدت فيه أعداداً من هذه النشرة تحتوي على مقالات كتبتها تعطي فكرة عن شخصيتي في تلك السن المبكرة واهتماماتي.

back to top