مفكّرون أميركيون ينظّرون للمرحلة المقبلة أين نحن عرباً من ثورة الاتصالات والصناعات الالكترونية؟
كانت لحقبة نهاية الحرب الباردة تداعياتها المختلفة على جميع الأصعدة، العسكرية والسياسية والثقافية والفكرية. إلا أن العديد ممن تناولوا هذه الحقبة صبّوا جلّ اهتمامهم على الناحيتين العسكرية والاقتصادية، متناسين الجانبين الثقافي والفكري، ما أراه خطأ علمياً واختلالاً في زاوية الرؤية.
ليس من قبيل المصادفة أن نرى ثلاثة مفكرين أميركيين يبرزون خلال العقد الماضي وتستحوذ إصداراتهم بل نظرياتهم الفكرية، على الاهتمام العالمي. فمن منّا لم يسمع بالمفكر الأميركي فرانسس فوكوياما ومقاله المشهور «نهاية التاريخ» الذي نشره في صحيفة «المصالح القومية» عام 1989م وتحول إلى كتاب مترجم إلى لغات عديدة منها العربية. المفكر الآخر هو صمويل هنتنغتون ونظريته المشهورة «صدام الحضارات»، أما الثالث والأخيرفهوالصحافي توماس فريدمان وكتابه «السيارة الكسس وشجرة الزيتون» الصادرفي 1999م والمترجم أيضاً إلى العربية. ولفريدمان كتابان آخران لايقلان أهمية «تطلعات العالم ومواقفه في عصر الإرهاب» (2002م) و«العالم مسطح تاريخ مختصر للقرن 21» (2005)م.يكتسب هؤلاء المؤلفون الثلاثة أهميتهم من أن نظرياتهم وأفكارهم ترد في سياق الحديث عن العولمة وهيمنة القطب الأوحد. طروحات ممزوجة بالثقافة وعلم الاجتماع وإن كانت لاتخلو من سياسة اقتصادية تقودها الشركات الكبرى عابرة القارات. ذلك بغض النظرعما يثارأحياناً من أن المفكرين الثلاثة يأتون في سياق موظف لخدمة السياسة الخارجية الأميركية، وهذا ما لا تنكره إدارة بوش بل إن الاستراتيجية الحديثة للحروب العسكرية تستدعي استعانة العسكر بالنظريات الفكرية المرافقة لحملاتهم، ما يهيّئ الأجواء ويجعل المهمة أكثر يسراً وسهولة. نهاية التاريخيتحدّر فوكوياما، بحسب موسوعة ويكبيديا، من أصول يابانية. مواليد شيكاغو عام 1952م، عمل في وظائف عديدة أكسبته حنكة ودراية فكرية وثقافية. مستشار وخبير في مركز الأبحاث والتخطيط الاستراتيجي التابع لوزارة الخارجية الأميركية وأستاذ جامعي لعدة سنوات.في كتابه «نهاية التاريخ وخاتم البشر» يستعجل فوكوياما النتائج ويقفز فوق الأسباب والمسببات، معلناً بكل بساطة أن العالم وصل إلى نهايته وأن التطورالبشري والتكنولوجي هو في ذروته الآن. في تعبير آخر، قد تشكل الديمقراطية الليبرالية في صورتها الأميركية نقطة النهاية في التطور الإيديولوجي للإنسانية، فهي الصورة النهائية لنظام الحكم البشري وتمثل بالتالي نهاية التاريخ. لعل هذه النتيجة الحتمية المغرقة في الثقة بالذات إلى حد الغرور، دفعت عدداً من المفكرين في المشرق والمغرب إلى انتقاد مقولات فوكوياما علناً واعتباره متملّقاً أومحابياً للإدارة الأميركية. ما زلت أذكرحواراً تلفزيونياً في إحدى القنوات العربية للزعيم الليبي معمرالقذافي الذي أجاب عن سؤال طرحه عليه صحافي حول نظرية نهاية التاريخ إذ قال: «إن فوكوياما ليس أكثرمن إنسان متملق ونظريته لاتعني شيئاً». بالحدة ذاتها أو أكثر نجد مفكرين آخرين ينتقدون فوكوياما. يقول د. عمرفوزي نجاري: «إن النظرة المادية البحتة للأمورأوصلت فوكوياما إلى نظريته المتمثلة بأن انتصار الرأسمالية يعني نهاية التاريخ، وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يملكه، وأن فقدان الملكية يعني انعدام قيمة مالكها، وبالتالي فإن المجتمعات البشرية ستكون أمام أحد خيارين: إما أن تأكل أوأن تؤكل».مواقفرغم مرور أكثر من سبعة عشرعاماً على مقولة «نهاية التاريخ» إلا أن فوكوياما مازال متمسكاً بمواقفه ويرد على منتقديه بالحجة والبرهان. يكتب في مقال له نشرعام 2000م، ونقله إلى العربية د. أسامة القفاش: « منذ نشرمقالي والنقاد يطالبونني بإعادة النظر في هذه الفرضية أوالتخلي عنها (...) طوال السنوات العشر الماضية لم يحدث شيء على صعيد السياسة العالمية أو الاقتصاد الكوكبي يتحدى الاستنتاج الذي توصلت إليه وهو أن الديمقراطية الليبرالية والنظام الاقتصادي المتوجه نحوالسوق هما الخياران الوحيدان المتاحان للمجتمعات المعاصرة». صدام الحضاراتاشتهر صمويل هنتنغتون أستاذ العلوم السياسية بتحليله العلاقة بين العسكروالحكومة المدنية، وتذهب اكثرالدراسات التحليلية إلى أن كتاب هنتنغتون «صدام الحضارات» يكتسب أهميته من نقطتين محوريتين أولاهما أن مؤلفه يفترض أن هناك خطراً محدقاً بالولايات المتحدة من جراء تنامي الفكر القومي والعرقي لدى بعض الشعوب والأمم التي تكون محل صراع أو نزاع مع الولايات المتحدة الأميركية. أما المحورالثاني الذي يمثل الجانب الأهم الكتاب هو ما يتعلق بمناقشة نظرية نهاية التاريخ التي يثبت فوكوياما من خلالها أن الغلبة باتت مؤكدة للولايات المتحدة في الميدانين العسكري والاقتصادي. إلا أن هنتنغتون يعارض هذه النظرية بل يشكك فيها ذاهباً إلى أن صراعات ما بعد الحرب الباردة ستكون الأعنف على أسس ثقافية/حضارية بين الحضارات الغربية والإسلامية والصينية والهندوكية...إلخ. يميز هنتنغتون بين الصراعات العقائدية والثقافية، ملمحاً إلى أن الصراع في فترة الحرب الباردة كان مبنياً على أسس عقائدية أما في أيامنا هذه فإن الحرب المرشحة للاشتعال هي الحرب الثقافية الحضارية. ويذهب منتقدو هنتنغتون إلى أن نظريته هذه كانت الأساس النظري لشرعنة عدوان الغرب بقيادة الولايات المتحدة على العالم الإسلامي والصين (انظرموسوعة ويكبيديا، صمويل هنتنغتون).حوار الحضاراتلم يكن مفهوم صراع الحضارات ليمر مرورالكرام من دون أن يلقى العناية والاهتمام الكافيين عالمياً. لذا كان طبيعياً أن نجد رد فعل العالم الإسلامي معاكساً لما ذهب إليه المفكرالأميركي، فقد بادرالرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي الى طرح مقولة «حوارالحضارات» عوضاً عن صدام الحضارات» في كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2001م وسرعان ما انتشرت هذه المقولة وأصبحت شعاراً لكثير من الباحثين في العالم الإسلامي وفي الدول الغربية أيضاً. كان لمقولة خاتمي ما يساعدها من عوامل ومؤثرات، فالصراع الفكري والتكنولوجي النووي بين الغرب وإيران كان يشهد إرهاصاته الأولى، كما أن الحرب على الإرهاب التي انطلقت شرارتها الأولى بعد حوادث 11 أيلول كانت الحدث الأهم الذي نبه إلى ضرورة حوارالحضارات بدلاً من صراعها.يرى بعض الباحثين أن هنتنغتون يعاني عقدة الخوف من الآخر أوالخوف المرضي من الأجانب، ذلك بعد صدوركتابه «من نحن؟ التحديات لهوية أميركا القومية» (2004م) وموضوع الكتاب عن معنى الهوية القومية لأميركا والتهديد المحتمل الذي تشكله الهجرة اللاتينية.توماس فريدمانالصحافي الأميركي توماس فريدمان، أشهر من نارعلى علم، لاسيما بالنسبة الى المتابعين من منطقة الشرق الأوسط. داعم دائم لسياسات بلاده الخارجية، بل مبشربالحضارة الأميركية وبرسوخ نموذجي «ماكدونالدز» وحفلات الشواء الأميركية. يحظى فريدمان باهتمام كبير لدى الباحثين العرب، ربما لطبيعة عمله ذات الصلة المباشرة بالإدارة الأميركية إذ عمل مراسلاً رئيسياً للبيت الأبيض بين عامي 1989 و1992م. بدأ فريدمان عمله مع «التايمز» في عام 1981م كمحرر لمواضيع تتعلق بالنفط وبأوبك، ثم مديراً لمكتب بيروت عام 1982م قبيل الغزوالإسرائيلي للبنان، ما أتاح له فرصة تغطية حوادث مهمة من بينها مذبحة صبرا وشاتيلا وتفجيرالسفارة الأميركية والمارينز عام 1983م. منح جائزة بوليترز لتقاريره اللبنانية وجائزة البوليترز عام 1988م من إسرائيل.رغم ما يقال دائماً عن أن فريدمان مؤيد للسياسات الصهيونية، إلا أننا لا نستطيع إنكار حدة الذكاء والحس الصحافي العالي اللذين يتمتع بهما. ينظر الى الامور من زاوية المراقب الذي يعنى بأدق التفاصيل الاجتماعية والثقافية، ولا يكتب من منطلق وعظي أوتنظيري جامد بل ينقل الصورة كما يراها في مشاهداته الصحافية. ومن أظرف ما كتبه: «إن البلاد التي يغزوها الأسلوب أوالنمط الأميركي في طريقة العيش ستكون أبعد ما تكون عن الحروب». تبريره أن الناس سينشغلون بالوقوف طوابيرأمام مطاعم «ماكدونالدز» عوضاً عن حمل السلاح أوالتقاتل.أحدث آخر كتبه ضجة على الصعيد الدولي وعنوانه «العالم مسطح تاريخ مختصرللقرن 21»، يعتبر فيه أن الهند والصين لاعبان أساسيان في السياسة الدولية، أما العرب فهم خارج سياق القرن، ما أثار حفيظة عدد من المفكرين العرب. لكن قبل الانتقاد لِمَ لا نتساءل بهدوء: أين نحن من ثورة الاتصالات والصناعات الالكترونية والعسكرية الحديثة؟ أوَلسنا خارج السياق؟