ما قل ودل: قانون التجمعات... وفارس الحريات

نشر في 28-04-2008
آخر تحديث 28-04-2008 | 00:00
 المستشار شفيق إمام في تصريح، نشر في صحيفة «الأهرام» المصرية في عددها الصادر بتاريخ 16 من الشهر الجاري، نُسب إلى نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا في مصر، والمشرف على احتفالية ستنظمها المحكمة في العام المقبل، بمناسبة مرور أربعين عاماً على إنشائها، أعلن فيه المستشار ماهر سامي، أن المحكمة أعدمت خلال هذه الفترة 311 نصاً قانونياً، كما نجحت في ضبط إيقاع التشريع المصري من خلال 3015 حكماً أصدرتها في الطعون المقامة أمامها بعدم دستورية بعض النصوص القانونية.

- الأحكام الدستورية .. طبيعتها:

ولا تخرج أحكام المحكمة الدستورية عن كونها أحكاماً قضائية تفصل في خصومة دستورية حول شبهات تقوم لدى الخصوم في الدعوى الموضوعية بعدم دستورية نص تشريعي يتم تطبيقه عليهم بالمخالفة لنصوص الدستور، فإن قبلت محكمة الموضوع الدفع بعدم دستورية النص التشريعي، وإحالته إلى المحكمة الدستورية فإن هذه الأخيرة تكون مهمتها إجراء المطابقة بين النص التشريعي وأحكام الدستور والمبادئ الدستورية، فإذا رأت في هذا النص انحرافاً عن هذه الأحكام والمبادئ قضت بعدم دستوريته.

- تأثير المحكمة الدستورية على الواقع السياسي:

ولئن كان ما يصدر عن المحكمة الدستورية في رقابتها لدستورية القوانين هو أحكام قضائية، إلا أن هذه الطبيعة القضائية لا تنفي ما تحدثه أحكامها من تأثير على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وعلى الأحداث السياسية، وعلى التوازن بين السلطات الدستورية، والتي تكفل حقوقاً سياسية واجتماعية واقتصادية للأفراد، تتعدد وجهات النظر فيها، وتتعرض لها القوانين بالتنظيم وتحديد الشروط والإجراءات التي تمارس بمقتضاها.

وهو ما دفع بعضهم إلى القول إن نظام الحكم في الولايات المتحدة الأميركية أشبه بعربة تجرها ثلاثة خيول، الرئيس والكونغرس والمحكمة العليا الأميركية، والتي تعتبر أسبق الدول في الاعتراف للقضاء بحق رقابة دستورية القوانين.

بل ذهب بعض آخر إلى وصف الولايات المتحدة الأميركية، بأنها حكومة قضاة، عندما قررت المحكمة الحقوق المدنية للملونين، واعتبرت أن انتقاص قوانين الولايات من هذه الحقوق ينطوي على إهدار لأحكام الدستور الأميركي، بإخلالها الجسيم بمبدأ المساواة الذي قرره الدستور.

- المحكمة الدستورية تناست أصل نشأتها:

وكما تناسى مجلس الدولة الفرنسي أصل نشأته، حيث نشأ امتداداً لمجلس الملك Conseil du Roi، وامتيازاً للإدارة يبرر قراراتها وتصرفاتها ليصبح مفخرة لقضاء المشروعية في العالم كله، تناست المحكمة الدستورية في مصر أصل نشأتها، لتصبح قلعة حصينة لحماية الدستور، وصون مبادئه، بإهدار القوانين التي تنال منها أو تمس نصاً من نصوصه بالتأويل والتفسير عند التطبيق، بما يخل بالأهداف المتوخاة منه.

ذلك أن الهدف الحقيقي من إنشاء هذه المحكمة، كان الرغبة في إبعاد المحاكم عن رقابة دستورية القوانين، وإلزامها بتفسير المحكمة العليا لنصوص القوانين، بسبب نظرية الريبة والحذر من رجال القضاء، الذين يعتلون منصات المحاكم والذين تجرؤوا على المشاركة في إصدار هذا البيان.

وهو الهدف الذي أكده أن إنشاء المحكمة الدستورية تقرر في 31/8/1969 بقانون صدر في اليوم نفسه الذي انتهكت فيه أحكام الدستور واعتُدي فيه على استقلال القضاء، بقانون آخر أطلق عليه قانون مذبحة القضاء، وهي المذبحة التي أُقصي فيها من المناصب القضائية 169 من قضاة مصر الذين شاركوا في بيان الجمعية العمومية للقضاة الذي أصدروه في ناديهم في 28 من مارس سنة 1968، والذي أكد مبدأ الشرعية وسيادة القانون في ظلٍ من رقابة قضائية، لتوطيد سلطان القانون وتوفير الضمانات لتطبيقه.

- فارس الحريات:

ولابد من الاعتراف، بأن أزهى فترات المحكمة الدستورية العليا في مصر، التي أصدرت فيها ذلك السيل المنهمر من الأحكام، التي صانت أحكام الدستور، وكفلت للأفراد حقوقهم وحرياتهم، ورسخت مبدأ المساواة، باعتباره الضمانة الأساسية لحماية هذه الحقوق والحريات، وأقامت من مبادئها سياجاً لحمايتها وللحفاظ على المكتسبات الديموقراطية، هي الفترة التي تولى فيها فارس الحريات الدكتور عوض المر سدة رئاسة المحكمة منذ عام 1991 وحتى عام 1998، والذي رحل للقاء ربه منذ سنوات، بعد أن أفنى عمره وحياته في تأصيل الفكر القانوني الدستوري، رحل وقد حفر في ضمير الشعب المصري ووجدانه، المحكمة الدستورية، باعتبارها الحصن الحصين للحقوق التي صانها الدستور، والملاذ الأمين للحريات التي كفلها.

- دستور الحريات:

ومن بين الأحكام العظيمة التي أصدرتها المحكمة الدستورية العليا في مصر، برئاسة الدكتور عوض المر «رحمه الله»، الحكم الصادر بتاريخ 5 أبريل سنة 1995 في القضية الدستورية رقم (6) لسنة 15 قضائية، والذي أرسى بعض المباديء الدستورية والقانونية الخاصة بحق الاجتماع، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من دستور الحريات، الذي وضعه الفقيد الراحل، ومن بين هذه المبادئ والحقائق التي أرساها الحكم المذكور بالنسبة إلى حق التجمع ثلاث حقائق أساسية:

* حق التجمع وحرية التعبير:

ربط الحكم بين حق التجمع باعتباره حقاً دستورياً أصيلاً، وبين حرية التعبير، لأن الدستور لا يرمي من وراء ضمان هذه الحرية أن تكون مدخلاً إلى توافق عام، بل تغيّا بالنصوص التي تقررها أن تكون كافلة لتعدد الآراء، من خلال قنواته المختلفة، ومنها التجمعات، ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل ومحدداً لكل اتجاه.

* حق التجمع وحق الانتخاب:

وربط الحكم كذلك بين حق التجمع وحق الانتخاب، باعتبار أن تجمعات الناخبين في الحملات الانتخابية، هو الإطار الذي يحددون من خلاله أولوياتهم، وهو القاعدة التي يفاضلون من خلالها بين المرشحين، لاختيار مَن يكون شريكاً معهم في أهدافهم قادراً على النضال من أجل تحقيقها.

* حق التجمع والتفكير الجماعي:

واعتبر الحكم حق التجمع صورة حية لشكل من أشكال التفكير الجماعي، يتصل اتصالاً وثيقاً بحرية التعبير وتداول الآراء بين مجموعة من الأفراد يوظفون في التجمع خبراتهم، ويطرحون آمالهم، ومصاعبهم، ويتناولون بالحوار ما يؤرقهم.

واعتبر الحكم أن الانعزال عن الآخرين، يؤدي إلى استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها.

وإلى مقال مقبل نتناول فيه حكم المحكمة الدستورية في الكويت بعدم دستورية بعض نصوص قانون التجمعات، لنجلي ما يكون قد غمض على المواطنين من هذا القضاء، الذي يعتبر جزءاً من قضاء الحريات الذي أصبحت هذه المحكمة تتبناه في العديد من أحكامها الحديثة.

back to top