الجيوبوليتيك: علم الدولة ومفتاح السياسة والاقتصاد

نشر في 18-07-2007
آخر تحديث 18-07-2007 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

يكشف «الجيوبوليتيك» الستار عن رؤية متكاملة للعالم بحيث لا يمكن مقارنته مع فرع واحد من العلوم، بل ربما توجبت مقارنته مع منظومة العلوم. ويطرح هذا العلم مقولة مناقضة لما تطرحه الماركسية والليبرالية، فهو يستبدل الاقتصاد بالجغرافيا في نقطة انطلاقه الأساسية ليصك مقولته الفريدة الخاصة: «التضريس الجغرافي مصيراً».

قليلة هي المصطلحات السياسية التي تستحق بحثاً معمقاً في تركيبها اللغوي ومعناها السياسي وأبعادها المتعددة الطبقات، وإذ تتردد مصطلحات سياسية بعينها في فترات تاريخية معينة، فإنها تعود لتفسح المجال لمصطلحات أخرى في أزمنة مختلفة وظروف مغايرة وهكذا. ولئن طغت مصطلحات «الرسالة الخالدة» و «مجتمع الكفاية والعدل» على المفردات السياسية في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، فقد تصدرت مفردات «السلام العادل» و «الانفتاح» واجهة السياسة في السبعينيات. أما مصطلحات مثل «مبادرة السلام» و «عملية السلام» فتشكل في الوقت الحالي جزءاً أساسياً من الخطاب السياسي العربي، بحيث يندر أن تجد نصاً سياسياً مكتوباً أو محكياً لا يحشر أياً من هذه المصطلحات في زمرة مفرداته. وإذ تعكس هذه المصطلحات قيماً زمانية ومكانية محددة؛ محلية وإقليمية بالضرورة، فإنها تصبغها بخصوصية جغرافية وتاريخية معينة، وتحد بالتالي من انتشارها كمفردة من مفردات السياسة خارج الوطن العربي. وعلى النقيض من المفردات الغارقة في إقليميتها العربية شهد العالم في القرن الأخير طغياناً لمفردات تستند إلى أسس إيديولوجية، تمتعت بانتشار هائل في خطاب الأحزاب السياسية التي تبنتها. وهكذا أمكن وجود حركات سياسية في أفريقيا السوداء وفي المنطقة العربية والقارة الآسيوية تشترك في المصطلحات والأفكار والعقيدة السياسية (الإيديولوجيا) مع أحزاب وحركات سياسية مماثلة في أوروبا وأميركا الجنوبية، بحيث لاقت هذه المصطلحات رواجاً كونياً قل نظيره. والمدرستان الفكريتان الأشهر للدلالة على هذا المثال هما: الماركسية ونقيضتها الليبرالية، اللتان طرحا مصطلحات كثيرة العدد ولكنهما ارتكزتا معاً -للمفارقة- على مقولة «الاقتصاد مصيراً».

دخلت المصطلحات الليبرالية مثل «حرية السوق» و«آليات السوق» يداً بيد مع مصطلحات ماركسية مثل «علاقات الإنتاج» و«التخطيط الاقتصادي»، قاموس السياسة من أوسع أبوابه. ومن البديهي اليوم لأي محلل سياسي أو صانع قرار في العالم أن يلاحظ الترابط بين السياسة والاقتصاد من حيث كونهما وجهين لعملة واحدة، يستوي في ذلك التحليل الليبرالي أو الماركسي. ويمكن عن طريق التوجه السياسي استنباط توجهات الاقتصاد، والعكس صحيح؛ فمن مسار الاقتصاد في بلد ما يمكنك تحديد ملامح التوجهات السياسية لهذا البلد. وهذا التداخل البديهي بين السياسة والاقتصاد أنتج علوماً تعنى به في حد ذاته مثل الاقتصاد السياسي، كما صّك مصطلحات عابرة للأيديولوجيا والقارات مثل «السياسة الاقتصادية» لبلد ما. وفي مقابل الرواج الشعبي والجماهيري لمصطلحات بعينها في منطقتنا العربية وفي العالم، فمازالت علوم ومصطلحات خارج التداول الشعبي والجماهيري رغم أهميتها الفائقة والدور الذي تؤديه في توجيه السياسة والاقتصاد لأي بلد. والمثال الأبرز على ذلك هو علم «الجيوبوليتك» الذي اشتقت تسميته من جيو وكيلاً عن الجغرافية والبوليتيك وكيلاً عن السياسة، بشكل أشبه ما يوصف بعلم «الجغرافيا السياسية»، ولكن هذا العلم الأخير لا يرقى على أهميته لجمع معاني وخصائص «الجيوبوليتيك».

يكشف «الجيوبوليتيك» الستار عن رؤية متكاملة للعالم بحيث لا يمكن مقارنته مع فرع واحد من العلوم، بل ربما توجبت مقارنته مع منظومة العلوم. ويطرح هذا العلم مقولة مناقضة لما تطرحه الماركسية والليبرالية فهو يستبدل الاقتصاد بالجغرافيا في نقطة انطلاقه الأساسية ليصك مقولته الفريدة الخاصة: «التضريس الجغرافي مصيراً». ذلك أن الجغرافيا والمدى المكاني يؤديان في «الجيوبوليتيك» الدور الذي تؤديه العلاقات الإنتاجية والنقود في الماركسية والليبرالية، فالكيانات الجغرافية لها روحها الخاصة، تلك التي تنتج «قوانين المكان» الخاصة بها. وكان العالم الجيوبوليتيكي الألماني الشهير فريدريش راتسيل قد صنف الدولة على اعتبارها «جهازا محكوما بالمدى المكاني ومتجذرا في التربة الوطنية»، أما المفكر السويدي رودلف تشيلين فقد عرف الدولة على أنها «جسم جغرافي متجسد في المكان». ومن علم «الجيوبوليتيك» ولدت مفردات عميقة المعنى والمضمون مازالت وستظل ما بقيت الدول المستقلة تشكل الأساس الأولي للقرارات الحيوية للدول، مثل «المدى» و«المجال الحيوي» و«المعنى المَدَوي» و«طاقة الحياة». أهمية هذا العلم، أو مجموعة العلوم أنه يكتشف قوانين حركة الدول ومساراتها، فبعد التعمق في «الجيوبوليتيك» تكتشف أن لا الأيديولوجيا ولا الميول السياسية هي التي تحدد مصائر الدول، بل قوانين «الجيوبوليتيك» التي تشدد على أن الدول قد تبدو حرة في اختياراتها، ولكنها ليست حرة في بنية اختياراتها، لأنها مثل كائنات حية محكومة بالمدى المكاني الذي تعيش فيه!. «الجيوبوليتيك» هو علم عابر للقارات والإيديولوجيا والأزمنة، يحكم ويحدد مسار سياسات الدول استناداً إلى قوانين المكان؛ ولأن هذا العلم هو علم السلطة فهو شديد التعلق بالدولة وقوانين حركتها في المدى المكاني، يبقى محبوساً في عليائه بين أيدي صناع القرار. وما يزيد من العزلة التقليدية لعلم «الجيوبوليتيك» في عالمنا العربي ندرة وجود المراجع والكتب الكلاسيكية المؤسسة له في المكتبة العربية.

 

كاتب وباحث مصري

back to top